لم يكن الرئيس سعد الحريري يتوقّع عودته إلى السلطة بعد عامٍ على المغادرة. آنذاك، أوحى بأنّ ثلاثةً «طَلّقَهما» بالثلاث: العهد والتسوية وجبران باسيل. ولكن، للظروف أحكام. فها هو يعود، ولكن لا إلى ذلك «العهد» تحديداً، ولا تلك التسوية، ولا إلى باسيل. إنه يعود إلى مكان آخر، وشركاء آخرين، وبرنامج آخر. فمِن تشرين 2019 إلى تشرين 2020، تغيّرت أمور كثيرة في لبنان والشرق الأوسط... وستتغيّر.

مبدئيّاً، الحريري سيتمكن من تأليف حكومته لأنه مدعوم دولياً. وستتمّ تسوية الاعتراضات الصادرة عن القوى المسيحية الخائفة من «حلف رباعي» يعزلها ويسيطر على العهد، في مرحلة يمكن اعتبارها تأسيسية.

يتردّد أنّ هناك ضوءاً أخضر دولياً لفريق رئيس الجمهورية لكي يطالب بالمشاركة في الحكومة، بحيث لا يشعر المسيحيون بأنهم خارج السلطة، وأنّ الحريري تلقّى طلباً للاستجابة إلى القوى المسيحية وتشكيل حكومة تراعي تمثيل الجميع. فالقوى الدولية لا تريد أن يكون المسيحيون هذه المرة عنصر عدم استقرار في النظام السياسي الداخلي.

ووفق المطّلعين، تمّ التفاهم بين باريس وواشنطن، في لحظة الانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية، على بناء السلطة سريعاً في لبنان، وعلى أسس «الواقعية»، ويمكن وصفها بالانتقالية إذ انّ المطلوب منها هو أداء وظائف معينة، وبعدها، ستكون للظروف ولإرادة اللبنانيين مسألة تغييرها.

إذاً، التفاهم قضى بتعويم الطاقم السياسي القديم ظرفياً من أجل تشكيل حكومة تواكب الاستحقاقات الإقليمية المتسارعة. وبالتأكيد، هذا الطاقم لن يستجيب لشروط الإصلاح التي يطلبها المجتمع الدولي لأنّ ذلك يعني نهايته.

كما أنّ هذا الطاقم لن يجرؤ على فتح الملفات التي تعني «حزب الله» ودوره العسكري والأمني والسياسي، محليّاً وإقليميّاً. وهذا الأمر سيكون التحدّي الأبرز الذي ستواجهه الحكومة العتيدة في علاقتها مع المجتمع الدولي.

العارفون يقولون: هذه المرة، الأميركيون والفرنسيون سيغضّون النظر، جزئيّاً، عن منظومة الفساد التي أكلت الدولة والمؤسسات وتسبَّبت بإسقاطها وانهيار البلد. وسيَقبلون بتسوية «على مَضض» في ملف الفساد، لا تطيح الطبقة السياسية التي تحتاج إليها المرحلة.

مثلاً، لن يكون هناك تدقيق جنائي في مصرف لبنان أو في قطاعات الكهرباء أو الاتصالات أو في مجلس الإنماء والإعمار أو سواه من المجالس والصناديق، ولا تدقيق أو تحقيق في سجلات المشاريع والتلزيمات والعقود السابقة، ولا بحث عن عشرات المليارات أو مئات المليارات من الدولارات المنهوبة بإشراف الطواقم السياسية المتعاقبة وبمشاركتها.

على الأرجح، سيتم «ابتكار» تسويات سريعة قوامها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على خطة ركيزتها «الورقة الإصلاحية» التي أذاعها الحريري عند استقالته، العام الفائت، وهي ترضي المصرف المركزي وجمعية المصارف والسياسيين على حد سواء، وتحظى بموافقة فرنسا والجهات المانحة.

وعلى أساس هذه «التسوية» العاجلة، يبدأ الإفراج عن أموال «سيدر» المجمّدة. فيتلقّى البلد جرعات إنعاش. وهذا «البرنامج» يستغرق تنفيذه حتى حلول الاستحقاقات الدستورية المقبلة، أي الانتخابات النيابية والرئاسية وتشكيل حكومة جديدة، أي في غضون العامين المقبلين.

ويمكن أن تكون حكومة الحريري المدعَّمة بثقة القوى السياسية كلها، بما فيها «حزب الله»، هي الراعي لهذه المرحلة. وبعد ذلك، تفرض الانتخابات ما يمكن وصفه بالتغيير، سواء في الطاقم أو في الخيارات السياسية.

لكنّ نجاح هذا السيناريو مرهون بمدى استعداد «حزب الله» للتسهيل في ملفات كثيرة. وبتعبير أكثر وضوحاً، سيكون مرهوناً بمناخات التقارب أو التطبيع الإيرانية - الأميركية. وربما تكون المفاوضات الجارية مع إسرائيل ركيزة أساسية في هذا البرنامج، لأسباب عدّة، لا اقتصادياً فحسب بل سياسياً أيضاً.

وثمّة مَن يعتبر أنّ ملف المفاوضات هو الدافع الأساسي لموافقة الأميركيين على «التمني» الفرنسي «ترتيب الوضع اللبناني واقعياً». ففي النهاية، سيكون الأميركيون هم أصحاب الكلمة الحاسمة في ترسيم الخط فوق الماء، كما في تقاسم مخزونات الغاز تحتها. ويقال إن قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات. ولا يمكن تجاهل الأهمية التي يوليها لبنان لهذه الثروة، عندما يكون جالساً إلى طاولة المفاوضات في وضعية المُفْلِس.

وهناك مَن يعتقد أنّ اللبنانيين والإسرائيليين، الذين سيعقدون غداً جلسة العمل الأولى في الناقورة، لن يتأخّروا في توقيع الاتفاق، لأنّ مفاوضات حقيقية كانت تدور على مدى سنوات بين لبنان وإسرائيل، من خلال الموفدين الأميركيين، وتحديداً بين القوى الشيعية وإسرائيل. وربما أصبح الاتفاق ناضجاً ولا يحتاج إلا إلى تظهير.

وسيعني ذلك أنّ الكباش العنيف على وزارة المال سيلاقيه كباش آخر على وزارة الطاقة. فالمليارات ستكون موجودة هناك، في السنوات المتبقية من العهد وبعده. وهذا أمرٌ يشغل بال باسيل وكثيرين.

ولكن أيضاً، هناك ما يمكن أن يشغل بال «الحزب». فالمفاوضات قد تصبح أعمق وأوسع في مراحلها المقبلة، وقد تنتقل إلى البرّ بعد البحر. وإذا واكبها تحريك للمفاوضات على الحدود السورية - الإسرائيلية، فهذا قد يخلق معطيات يعتبرها «حزب الله» حيوية.

البعض يقول إنها الواقعية، لكنّ آخرين يعتقدون أنه سيناريو الإنعاش «مِن قَريبو» والإصلاح المَتروك لـ»غَير مرّة انشَالله».

في أي حال، هناك برنامج ثقيل ستحمله حكومة الحريري، إذا كُتِب لها أن تولد، وفي شكل طبيعي. والحريرية، منذ أيام المؤسس في تسعينات القرن الفائت، كانت مهيّأة لحمل برنامج محلي - إقليمي من هذا النوع وهذا الحجم.

ولكن، وفيما الجميع اليوم واقفٌ على حدِّ السيف، سيكون فدائياً - بالمعنى السياسي - مَن يتبرّع بتأدية الأدوار الصعبة.