تعيش ​فرنسا​ اليوم اوقاتاً لا تحسد عليها بالنسبة الى محاولة التأقلم مع التعددية العرقية والدينية، وضبط السقف الذي يجب احترامه وعدم تخطيه في ما يتعلق بالحريات الدينية. يشبه البعض ما يحصل اليوم في فرنسا بما حصل في ​الولايات المتحدة الاميركية​ ابان ​هجمات 11 ايلول​ الارهابية، ليس من ناحية عدد ضحايا الاعتداء الارهابي، بل من ناحية ما تلاه من مشاكل جسيمة عاشها المجتمع الاميركي الذي تغيّرت نظرته الى المسلمين بشكل عام، وبات هؤلاء يكافحون كي يثبتوا انهم ما زالوا على حالهم ووفق طبيعتهم ولم يتغيّروا. عانى مسلمو اميركا فترة طويلة من التمييز، بعد ان نظر اليهم الجميع على انهم ارهابيون ومسؤولون عن احداث 11 ايلول، واخذت المسألة جهداً كبيراً كي تعود الامور الى مجاريها، ويبدو ان الامر تحول الى القارة العجوز لتتحول الى مسرح لهذا المشهد الصدامي انطلاقاً من فرنسا. لا شك ان الكثيرين دخلوا على خط هذه المواجهة الساخنة، منهم من تكفّل بصبّ الزيت على النار للاستفادة من الوضع وتسجيل النقاط (على غرار ​تركيا​)، ومنهم من ارتأى الدخول في مواجهة معنوية غير سياسية ودبلوماسية (مقاطعة المنتجات الفرنسيّة...) لكسب الشارع وتخفيف الاحتقان الشعبي (كقطر والكويت)، ومنهم من اضطرّ الى الدّفاع عن فرنسا وعن حريّة التعبير مهما كانت قاسية لمنع تغيير الهويّة الاوروبيّة الدينية والديموغرافية (​الاتحاد الاوروبي​ وعدد من الدول الاخرى). كل هذا الواقع اختلط لنصل الى المشهد المؤسف الذي تعيشه فرنسا حالياً، حيث يحصد المتطرفون الاسلاميون الارهابيّون ثمار العصبيّة الاسلاميّة بعدما افرغوها من معناها، ويعاني المسلمون المعتدلون والسلميّون تداعيات اعمال وافعال الارهابيين الذين يتلطّون خلف الهويّة الاسلاميّة كي يصلوا الى غاياتهم الارهابيّة والاجراميّة.

اللعبة التي يلعبها هؤلاء المتطرفون، تحتاج الى الكثير من الدقّة في التعاطي معها، ففرنسا حالياً باتت امام امتحان جدّي، لان التيارات المتطرفة تستغل الاسلاميين جميعاً في فرنسا وتدعوهم الى الجهاد لتحقيق غاياتها وليس غاية ​الدين الاسلامي​، فيما بدأت في المقابل اصوات ​اليمين المتطرف​ في زرع افكاره المناهضة للاسلام بشكل عام في افكار الفرنسيين غير المسلمين، والتحذير من فقدان الهويّة الوطنيّة والديموغرافيّة اذا بقيت الاوضاع على ما هي عليه اليوم. انها لحظة حرجة، ومع تأكيد الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ ان احداً لن يغيّر عادات الفرنسيين واحترام حريّتهم في التعبير والرسم الكاريكاتوي، اتّخذت المواجهة منحى آخر كلياً، واصبحت اقرب الى الحرب العمليّة منها الى الحرب الباردة، وقد نشهد ​حالات​ اعتداء يوميّة اكان من اوروبيين اسلاميين على مسيحيين او العكس، فيما يكمن هاجس باقي الدول الاوروبية من انتقال هذه "العدوى" اليها، مع كل ما يعنيه ذلك من فوضى وتراجع في المفاهيم المعتمدة منذ عشرات السنوات. ووفق ما هو واضح فإن الازمة ستشتدّ قليلاً قبل ان تصل الحلول، بمعنى انّ الشدّ العصبي الديني سيزداد دون ان يصل الى حدّ الانفلات التام، لانّ الطرفين المعنيين (اي الدولة والجالية الاسلاميّة التي تعيش فيها) يدركان تماماً اهمية كل منهما للآخر، فلا الدولة قادرة على مواجهة المواطنين الاسلاميين على ارضها نظراً الى عددهم الذي بات مهماً وعدم انتماء غالبيتهم الى التيارات المتطرفة والارهابيّة، كما ان الاسلاميين يعرفون انه لا يمكن محاربة الدولة والا فقدوا المفهوم الذي نشأوا فيه او اتوا من اجله من دول اخرى. من هنا، يمكن الرهان على الوعي الذي سيطرح نفسه لدى العقلاء من الجانبين، والذين سيكون لهم دور محوري في تبديد الهواجس وازالة "المتاريس" الموضوعة، والعودة الى الوضع الطبيعي، ومنع استغلال هذه المواجة من قبل اي طرف محلي او خارجي لزيادة الشرخ وتحقيق مكاسب لا تراعي مصلحة الطرفين المعنيين. فرنسا اليوم امام الامتحان، ومن المتوقع ان تكون النتيجة مشابهة لما وصلت اليه الولايات المتحدة بعد احداث 11 ايلول المؤسفة.