في القرن الأوّل ميلاديّ، بدأ شخص يهودي يجلب كثيرين إليه ويُحدِث فرقًا أينما وُجد. كان تعليمُه مختلفًا، وقالوا عنه: "فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ"(مرقس ٢٢:١).

أفحَمَ الحُكماء، وقد سبق لِمريمَ العذراءِ والدتِه أن ناشَدَته قائلةً: "أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ"(لوقا ٥٢:١-٥٥).

تلفِتُنا الآية الأخيرة مِن المقطع المذكور أعلاه: "كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ".

فكيف له أن يكون كلَّم آبائنا، أي حوالي ألفي عام قبل أن يولد هو بالجسد؟ وهذا ما قاله هو لليهود، فنزل كلامه كالصاعقة عليهم. "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ". فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ"(يوحنا ٥٦:٨-٥٨).

الجواب، لأنّه إلهنا قبل الدهور. وهو تجسّد وصار إنسانًا وبقي إلهًا. هو الخالق والرَّب والمُخلِّص. هو ​المسيح​ُ مُعطي السَّلامِ وفادي البشريّة. صُلبَ ومات وقام، وأقامَنا معه، وانطلقتِ البِشارةُ إلى العالَمِ أجمعَ ولا تزال، وواجبُ كلِّ مسيحيٍّ أن يعيشَ المسيحَ أوّلًا، ومن ثَمَّ ينقُلُه للآخرين.

مَعَ المسيحِ لم يكُنِ الملكوتُ قريبًا فحسب، بل كان هُنا، ونحن مدعوون أن نكتشِفَهُ فينا لأنّنا على صورتِهِ خُلِقنا. ولكن، للأسف، أحيانًا كثيرة ننساه، ويبقى مَن يستمرُّ في البحثِ عن السَّلامِ ولم يجده بعد.

هذا البحثُ حيّرَ العُلماءَ والفلاسِفَةَ وقَوافِلَ مِنَ الباحِثينَ الحَسَني النِّيَّةِ مُنذُ فجرِ التَّاريخ، فأتَتِ الكنيسةُ لِتَقولَ بِأنَّ الأحدَ الثَّاني قبلَ عيدِ الميلادِ المَجيدِ هُو "أحدُ الأجداد"، أي هو تَذكارُ أجدادِ الرَّبِّ يسوعَ المسيحِ في الجَسدِ، الّذينَ كانُوا قبلَ الشَّريعَةِ وفي الشَّريعَةِ، تلكَ الشَّريعةِ الّتي أعطاها اللهُ لِمُوسى.

مَقصدُ الكَنيسةِ في هذا الأَحدِ أن تَضَعَنا في حَالَةِ اشتِراكٍ مَعَ البَشريَّةِ جَمعاء، مِن آدمَ إلى المَسيحِ. وهُم أُناسٌ ارتَبَطُوا بالرَّبِّ يَسوعَ، إن مِن نَاحِيةِ الانتِظارِ أو مِن نَاحِيةِ النَّسب، أو بَحَثُوا عنهُ مِن دُونِ أن يعرِفُوه.

فابراهيمُ الّذي هُوَ مِن "أُورَ" الكَلدانِيَّةِ حيثُ عِبادَةُ القَمر، دَعاهُ الرَّبُّ وأصبحَ أبَ المُؤمِنين. وتلاهُ يَهودٌ وغيرُ يهودٍ، أمثالُ المجوسِ البابليّين.

هذا الجَمعُ الغَفيرُ يُترجِمُ ما قالَهُ الرَّبُّ بِلِسانِ إشعياءَ النَّبيّ: "إنَّ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ"(إشعياء ٧:٥٦). وهذا خاطبَ بهِ يسوعُ ​اليهود​َ في المَجمعِ أيضًا، إذ هو أتى خَلاصًا لِجَميعِ الأُمم، وليس لِفئَةٍ دُونَ سِواها.

يَستوقِفُني حِوارٌ حَصَلَ في القرنِ الثَّاني ميلاديّ في أَروِقَةِ مَدينةِ أفسُسَ قُربَ ​إزمير​ –تُركيّا حاليًّا- بينَ القِدّيسِ يوستينوسَ الفَيلسوفِ، وحاخامٍ يَهوديّ يُدعى تريفُون. خُلاصتُهُ تُجيبُ عن كُلِّ الأسئلةِ الّتي قد يطرحُها أيُّ سائلٍ عن سِرِّ الكَونِ وخالِقِهِ وسَلامِ ​الإنسان​. هُوَ مِن أروعِ الحِوارَاتِ الّتي قد نقرَأها في تاريخِ البَشريَّةِ جَمعاء.

فبعدَ أن جال يُوستِينوسُ على التيَّاراتِ الفَلسفيَّةِ الكَبيرةِ في عَصرِه، وتَعمَّقَ بِها طَويلًا، وَجدَ ما يَبحَثُ عنهُ في المسيحيَّةِ في شَخصِ يسوعَ وتعاليمِه. وقد أكَّدَ أن لا سلامَ للنَّفسِ خَارِجَ خالِقِها، فلا الاكتِفاءُ الّذي وَصلَ إليهِ الرِّواقِيّون، ولا قسوةُ الأرسطويين، ولا ادّعاءاتُ البيتاغُوريّين، ولا حتّى رؤيةُ الأفلاطونيّين في بحثِهم عنِ اللهِ روَّت نفسَه.

كما تكلَّمَ على الأفكارِ الانتقائيَّةِ الّتي يُمكِنُ للإنسانِ أن يَجمَعَها لِنَفسِهِ، والّتي لا تقُودُهُ إلى الحقيقَةِ الحَقّة.

ويشهدُ يُوستينوس أن وحدَهُ الإيمانُ الحَقيقيُّ المُعاشُ، وشجاعةُ المَسيحيّينَ بِعدمِ نُكرانِ إيمانِهِم تحتَ أشدِّ العَذابَاتِ والمَوتِ، كانت الجَوابَ الشَّافيَ لِكُلِّ ما كانت تَشتَهيهِ نفسُه.

لا يعتقِدَنَّ أحدٌ أنَّ هذهِ الأُمورَ قديمةٌ، وباتَت طَيَّ النِّسيان. على العَكسِ تَمامًا، فالمُعضِلاتُ هِيَ نفسُها في كُلِّ العُصُورِ والأَزمَان.

فقد دَرَجَ مثلًا في بِدايَاتِ القَرنِ العِشرينَ مُصطَلحُ "الفبرَكة الإيمانيّة Le bricolage religieux"، للتَّعبيرِ عن مَجمُوعَةِ أفكارٍ ومُعتَقداتٍ دِينيَّةٍ، يَلتقِطُها المَرءُ مِن هُنا وهُناك، ويَصنَعُ لِنفسِهِ إيمانًا خاصًّا مَبنيًّا على ما يُناسِبُهُ وما لا يُناسِبُه.

وهذا الأمرُ لا يُوصِلُ صاحِبَهُ إلى أيِّ مَكانٍ إذ تكونُ الأَنا الذَّاتيَّةُ هي المُسَيطِرَة.

وهناك كتابٌ لـ"Gérard Leclerc" بِعُنوان "Le Bricolage religieux" صدرَ في العام ٢٠٠٢ يَتنَاوَلُ هذا المَوضوعَ بِجوانبَ عِدَّة.

كذلك يأتي بَحثُ القِدِّيسِ يُوستِينُوس بالاتِّجاهِ نفسِه الّذي يَتكلَّمُ عَليهِ لاهُوتُ أحدِ الأَجداد. فهو لَم يَتنَكَّرْ لِلأَبحاثِ الفَلسفِيَّةِ الّتي تَعرَّفَ عَلَيها، بَل يُؤَكِّدُ أنَّها سَاعدَتْهُ لِلوُصُولِ إلى الحَقيقةِ الكَامِلَةِ الَّتي هِي الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح. فَشغَفُ البَحث مُبارَكٌ وبِخاصَّةٍ إن كان جِديًّا وعَميقًا، وسارَ في الطَّريقِ الصَّحيح.

وهُنا لا بُدَّ مِن ذِكرِ مَا قَالَهُ لُويس بَاستُور العَالمِ الفَرنسيّ (١٨٢٢-١٨٩٥م): "قليلٌ مِنَ العِلمِ يُبعِدُنا عَنِ اللهِ، وكَثيرٌ مِنَ العِلمِ يُعِيدُنا إليه". وهَذا يَنطَبِقُ على الفَلسَفَةِ والقِراءَاتِ والأَبحاثِ وغيرِها.

الفَخُّ الكَبيرُ في أيّامِنا هَذِهِ "السَّطحيَّةِ" في مُعالَجَةِ الأُمورِ، و"التَّسخيفِ" في الانتِقاءِ غيرِ المَبنيّ على إدراكٍ ومعرِفَةٍ بالعُمقِ لِلأُمورِ المُختَارَةِ والتَّيَّاراتِ المُتَّبَعَة.

فالإلحادُ ليسَ إلحَادًا بَل رَفضٌ وعدمُ إدراكٍ أو رَدَّةُ فِعلٍ، والعِلمانِيَّةُ ثَورَةٌ لا عُمقَ لها، تبدأُ بِمَكانٍ وتَنتَهِي بِمَكانٍ آخَر.

وهِيَ ليست واحِدَةً في جَوهرِها ولا أساسات لها. ومَن يدرُسُ عن كثب العِلمَانِيَّةَ في المُجتَمعاتِ الأُوروبِيَّةِ مَثلًا أو في كندا أو في الوِلاياتِ المُتَّحِدةِ الأَميركيَّةِ، يُدرِكُ أنَّها خِدعةٌ كَبيرةٌ تَتستَّرُ تحتَ أجنِحَتِها أفكارٌ فكَّكَتِ الأُسَرَ، وضَربَت انتِماءَ الفَردِ العائِليِّ والاجتماعيّ والإيمَانِيّ والوَطنِيّ، وأضاعَت هُويَّتَهُ وشَتَّتت أفكارَهُ، فباتَ يَدورُ في فَلَكٍ لا حُدودَ لهُ، ينتَقِلُ فيهِ مِن مَجرَّةٍ لأُخرى في تَيَهانٍ مُتواصِل. وقدِ اعتَرَفَ كثيرٌ من كِبارِ عُلماءِ الاجتِماعِ الغَربيّينَ بِذَلِك.

حاشا أن أتكلَّمَ كأنَّني أُناشِدُ الطَّائفيَّةَ أو التَّعَصُّبَ المَذهَبِيَّ أو التَّسَلُّطَ الدِّينيَّ حَلًّا، بَل مَا أَقولُه: إنَّ ما نَادَى بِهِ يَسوعُ هو رَجانا الوَحيدُ وخَلاصُنا الحَقيقيُّ والحَلُّ لِكُلِّ المُعضِلاتِ الّتي يَتخبَّطُ بِها الإنسانُ والمُجتَمَعُ، والجَميعُ مَدعُوونَ إلى عَيشِ الإنجيلِ، إكليريكيّينَ وغَيرُ إكليريكيّين، عِندَها نُرنِّمُ فَرِحِينَ: "الآنَ يأتي مِنَ البَتولِ رَجاءُ الأُمم، وبيتَ لحمُ تَفتَحُ أبوابَ عَدنَ المُغلَقَةَ بِتَقبُّلِهَا الكَلِمَةَ مُتَجَسِّدًا مُتَّكِئًا بِالجَسدِ في مَذود". (مِن خِدمَةِ سَحر أحدِ الأَجدادِ القِدِّيسين).