كان من المُفترض أن يعمّ ال​إضراب​ العام المناطق ال​لبنان​يّة اليوم، وأنّ تشهد بعض المناطق تحرّكات على الأرض، لكنّ الإتحاد العمُالي علّق إضرابه، بحجّة أن لا قرار برفع الدعم عن ​الطحين​ و​القمح​، ولا مسّ بسعر ​المازوت​، ولا رفع للدعم عن أدوية ​الأمراض​ المُستعصية. فهل هذا صحيح؟.

كلا! الصحيح أن لا قرار ببدء تطبيق رفع الدعم، لا جزئيًا ولا كليًا بعد، لكن المسألة مسألة وقت لا أكثر! وكل ما يحصل حاليًا، هو تأجيل للمُشكلة الكُبرى، ومحاولات مُستميتة لكسب الوقت، في إنتظار بارقة أمل ما من الخارج، ما لم يكن في إنتظار بدعة داخليّة ما، تؤمّن بعض الأموال للإستمرار في ​سياسة​ الإستنزاف المالي، أكان عبر إستخدام جزء مِمّا تبقّى من أموال المُودعين في ​المصارف​، أو عبر بيع جزء من إحتياطي ​الذهب​ أو من أصول ومُمتلكات الدولة!.

وبالنسبة إلى التحرّكات النقابيّة التي ألغيت فهي لا تُقدّم ولا تؤخّر، كون هذه النقابات مُتأثرة مُباشرة أصلاً بقوى سياسيّة وحزبيّة تُحرّكها في بعض الأحيان لتنفيس إحتقان هنا، أولتوجيه رسالة سياسيّة هناك، أو حتى لمجرّد الإستعراض الإعلامي هنالك! وإذا كان صحيحًا أنّ التحركات التي كانت مُفترضة اليوم قد ألغيت، فالأصحّ أن نسبة الإحتقان الشعبي بلغت ذروتها، وإنفجارها في الشارع لم يعد يحتاج لأكثر من شرارة الإشْعال! والقصّة لم تعد قصّة إضراب هنا، أو تحرّك نقابي هناك، أو ​تظاهرات​ شعبيّة هنالك... فلبنان صار على شفير إنفجار شعبي عارم وغاضب في المُستقبل القريب، وتحديدًا ما أن يتمّ الشروع في رفع الدعم-حتى ولوّ جزئيًا وتدريجًا، وذلك عن أيّ من السلع أو الخدمات التي لا تزال تتوفّر-أقلّه حتى تاريخه، بسعر مقبول وغير خيالي.

وهذا التحوّل لم يعد بعيدًا، لأنّ كلّ الحُلول المُعتمدة حاليًا لإستمرار الدعم على ​البنزين​ والمازوت و​الغاز​، وعلى ​الأدوية​ والطحين، وعلى بعض السلع الغذائيّة وغيرها، هي حُلول مُوقّتة وقصيرة المدى. وبالتالي، مسألة رفع الدعم هي مسألة وقت يُحتسب بالأسابيع، وتغيير الإسم من رفع الدعم إلى ترشيده، لن يُغيّر شيئًا في الواقع الذي سنصل إليه في المُستقبل القريب، لجهة إرتفاع أسعار العديد من السلع والخدمات بشكل ستعجز معه فئات وشرائح أوسع من الشعب اللبناني، عن الإستفادة منها. وما سبق يُشكّل أرضيّة خصبة لحُصول إنفجار شعبي كبير، بعيدًا هذه المرّة عن الحسابات السياسيّة، وعن النزاعات وتصفية الحسابات الحزبيّة، حيث يُنتظر أن يكون هذا الإنفجار بخلفيّات حياتيّة ومعيشيّة بحت، ولوّ أنّ جهات سياسيّة عدّة لن تتردّد في مُحاولة الدُخول على الخط لركوب المَوجة بغطاء إجتماعي، مع تخوّف من دُخول جهات خارجيّة وأجهزة إستخباريّة على الخط أيضًا، في مُحاولة لتعميم الشغب المُدمّر،ولزيادة حدّة ​الأزمة​ الإقتصاديّة-الماليّة.وليس بسرّ أنّ إجراءات التحصين والتصفيح والتدعيم قائمة حاليًا في أكثر من منطقة، ولأكثر من مؤسّسة ومركز ومصرف، إلخ. وذلك إستباقًا لأيّ أعمال شغب يُمكن أن تحصل. وفي حال فشل القوى الحزبيّة بضبط مُناصريها، أو في حال ترك هذه القوى حرّية التصرّف لهم، فإنّ أعمال الشغب مُرجّحة بنسبة عالية، خاصة وأنّ نسبة العاطلين عن العمل تكبر بشكل مُتسارع، ونسبة العاجزين عن تأمين قوتهم اليومي تتضاعف بوتيرة مُتنامية.

لكنّ المُفارقة أنّ أي تحرّك شعبي لن يُغيّر في الواقع القاتم القائم شيئًا، بل سيزيد الأمور تدهورًا وتراجعًا-كما حصل منذ نهاية العام الماضي حتى اليوم! والأسباب مُتعدّدة، وهي تعود إلى ضياع بُوصلة التحركات الشعبيّة، وإلى إنقسام القائمين عليها، وفشلهم في تكوين قيادة مُوحّدة للتحرّكات، وكذلك إلى عدم قُدرة أحد على خرق حُصون الفاسدين الفعليّين، وإلى نجاح بعض الأحزاب والقوى بإختراق هذه الإحتجاجات، أكان من قبل قوى مَحسوبة على اليسار اللبناني أو من قوى مَحسوبة على اليمين اللبناني، وما بينهما! وبالتالي، لا الرضوخ لقرارات ​السلطة​ البعيدة كل البعد عن إطلاق خُطة مُعالجة جدّية للتدهور القائم، سيُعطي أيّ نتيجة إيجابيّة، ولا الإعتراض على هذه القرارات المنُتظرة ومحاولة التصدّي لها! وبالتالي، يُمكن القول إنّ اللبنانيّين باتوا عالقين في دوّامة مُخيفة، حيث تتوالى الإنهيارات على يمينهم ويسارهم، من دون توفّر أيّ بارقة أمل ببدء الخروج من هذا الوضع المأساوي، سوى بإنتخابات قد تُعيد إنتاج مَنظومة حاكمة جديدة، في حال السماح بإجراء الإنتخابات من دون تأجيل من قبل الأحزاب المُسيطرة على المجلس، وفي حال أحسن الناخبون التصويت هذه المرّة، بعيدًا عن توجّهاتهم الطائفية والمذهبيّة والسياسيّة والحزبيّة التقليديّة، ومن دون التمسّكبالمَقولة الشهيرة: "كلن ما عدا زعيمي"!.

في الختام، لبنان لم يعد يحتمل أي تظاهرات أو إعتصامات، وأي تحرّكات شعبيّة، وأي قطع للطرقات، إلخ. لكن على الرغم من ذلك، الكثير من الناس لم يعد يملكون ما يخسرونه، وهم تحوّلوا إلى قنابل موقوتةستنفجر عند أوّل هفوة جديدة من قبل السُلطة، لأنّ آمال التغيير القانونيّة والديمقراطيّة مُقفلة تمامًا في الوقت الحاضر. وبالتالي حتى لو جرى إلغاء الإستعراضات الإعلاميّة التي كانت ستحصل اليوم، بتوجيهات سياسيّة من خلف الستائر، إنّ الإنفجار الشعبي الفعلي والحقيقي آت لا محالة!.