إن كان الصوُمُ باللسان، فإن ​الصيام​ بالوُجدان. إن فعل ​الصوم​، ليس بامتناع عن شيء بمقدار ما هو إمساكٌ عنه، وهو هدية السماء لسُكان الأرض. ولو لم يكن الصوم واجباً، لاهتدى إليهِ بعض الناس لعظمة آثاره وجليل ثِماره.

إن الكون الذي يحيط بنا يعيشُ حالة صوم مع خالقه بين فترة وأخرى، وهذا واضح إذا ما تأمّل المُتدبرُ في شأن ذلك. فالشمسُ التي تحجبُ دفأها، و​القمر​ الذي يستهل نوره بين النجوم، مثل الأرض التي تنحني لعُمالها وإخوانها في الحقول والبراري.

فالصوُم بظاهره إمتناعُ عن حركة ما، أو فعل قد اعتدنا عليه، لكن باطنهُ، تركُ للحيوانية البشرية، أو تأديباً لسطوة جموحها. فالصائمُ يُحاولُ مُجتهدا كسرَ غِل شهوته وعنفوان رغبته كلما إرتقى بفهمه لله للعظيم. وأولُ المُستلذّات ومنبتُ الصفات الحياتية او الحيوانية تكمنُ في الطعام ومفهومه بين الشبع والإشباع أو الإطعام والإدخار.

وحدهُ الصوم يقفُ حائلاً بين هذا وذاك في صراع النفس. إذ يرسمُ للصائمين بياناً جلياً في فَهم الرغبةِ وترشيدها. فالقرابينُ و​الهدايا​ والحُلى مع تفاوت العيش الذي نسعى إليه، في لحظة صوم، قد يتمثل ويتمايل أمام النواظري بشيء من لغة استنجاد ودعاء ومكامن القوة المسكونة في حبّ الأشياء وزهوها تنصرف عن أمعاء هي أحوجُ إليها.

فالوجدانُ الذي لم يطلع عليه أحد والذي نعيش معه حروباً لا تنتهي، من جسد يبحث عنها بالألم والجراح، ثم كفاح مُستمر وعناء، يقف في رحاب الصوم ليتعلم من جديد ان الكون هو كتاب الله المفتوح وان ​الإنسان​ هو سطره الأول فيه وكلما إرتقى تنقّى من براثن التيه والضياع. فبين لُغة الصوم والصيام يعبرُ الإنسان الى مرحلة الوعي بكل مسؤولية وتفانٍ ليتخلّى عما يُبقيه في سبيل ما يُغنيه سبحانه.

الصوم نظامٌ يُعطي الأمل برغم الجوع، ويُنشط المشاعر الهشّة برغم الواقع، ويرفع فينا حسّ الإيمان برغم المسافة البعيدة بيننا وبين السماء. لأنّه دعوة صريحة من دون غُبار للتحسّس بالآلام والأوجاع واللجوء إلى المُداوي لها، والذي لأجل رضاه نصوم سبحانه.

إنّ الصراع من أجل البقاء والتهالك من أجل مغانم الدنيا ومفاسد ​الحياة​، كل ذلك ينتهي عند اول إمساك او امتناع في مفهوم الصوم أو فلسفته. لأنّ بقاءنا من بقاء خالقنا. فنحن في دنيا الفناء التي تزول بزوال نعيمها. بل لعلنا نتذكر لنشكر ربنا الذي وهبنا الجزيل والكثير، في يوم صومنا وتضرعنا من بين يديه.

وفي كل ذلك العطش او الجوع لن نفِ ربنا حقه وشكره، على نعمة تجعل منا أهلا لعبادته أو طاعته. فالصيام بالوجدان هو التحرر الذي نبحُث عنه، من كل مادة تأسرُ فينا عزيمة الوجود أو قيمة المعاني السامية والأخلاق الرفيعة.

إنّ بناء الذات قد يبدأ بهدم الملذّات من معاني الصوم في دوحة الحياة بالتخلي عن المُباح، فما الحالُ بمن أمسك أنفاسهُ وقد جعلها حَباً وحُباً بين الناس وهو صائم؟.

هذا من غايات الوجدان وليس من غايات الحياة، إذ ختمَ سبحانه القول الفصل بعبارة "لعلكم تتّقون".