"أن يَموتَ الإنسانُ وهُو يُحارِب، هُوَ تَدميرٌ للمَوت، بَينَما أن يَموتَ الإنسانُ وهُوَ يَرتَجِفُ، يَكونُ قد دَفَعَ للمَوتِ مَذلولًا جِزيةً ثَمنَ حياتِه"، هَذا ما كتَبَهُ الكاتِبُ والشَّاعِرُ والمُمَثِّلُ الإنكليزيّ الشَّهيرُ "ويليام شكسبير"، في دراما المَلِكِ ريتشارد الثالث.

جميلٌ هذا الكلام، فماذا عَسانا أن نقولَ إذًا عن مَلِكِ المُلوكِ ورَبِّ الأربَابِ الّذي صَرخَ على الصَّليبِ بِصَوتٍ عَظيمٍ وأسلَمَ الرُّوحَ، والّذي بِمَوتِهِ وَطِئَ الموتَ بِالمَوتِ، ووَهَبَ الحَياةَ للّذينَ في القُبُور.

تَحرَصُ أيقُونةُ الصَّلبِ على أن تُظهِرَ المَصلُوبَ مُحارِبًا قَويًّا، جَبَّارًا ومُنتَصِرًا، لِيأتيَ التَّصويرُ بِتناغُمٍ كُلّي مَعَ مَا كتبَهُ متّى الإنجيليّ: "وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ"(متى ٥٠:٢٧-٥٣).

وهَذا أيضًا ما تُظهِرُهُ أيقُونَةُ نُزولِ الرَّبِّ إلى الجَحيم، إذ نرى الرَّبَّ صاعِدًا وظَافِرًا يَرفَعُ آدَمَ بِيَدِهِ اليُمنى، وحَوَّاءَ بيَدِهِ اليُسرى، وهُما يُمَثّلان البَشرِيَّةَ جَمعاء، وتَحتَ قَدَمَيهِ نرى أبوابَ الجَحيمِ مُخَلَّعَةً، ومَفاتِيحَها مُبَعثَرةً، والشّيطانَ مَهزومًا ومُقَيَّدًا.

إذًا مَوتُ المَسيحِ لم يكُن انهِزامًا بلِ انتِصارًا، هُوَ انتِصارٌ لنا نحنُ البَشر. فأَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا جحيم؟ (هَاوِيَةُ؟)"(١ كورنثوس ٥٥:١٥).

هذا الانتِصارُ ليس مَحصورًا فقط عندَ لحظَةِ المَوت، بل هو انتصارٌ مستَمِرٌ في كُلِّ مَرَّةٍ ننتَصِرُ فيها على خَطايانا ونَقومُ مِنها خَليقَةً جديدةً بِ​المسيح​. فمفاعيلُ القِيامَةِ لا تَنتهي، بل هي قوًّةٌّ أعطانا إيّاها اللهُ كأبناءِ المَسيحِ بِالتَّبنّي.

في سَنَتِنا الليتورجيّة اثنا عشرَ عيدًا أساسيًّا، نسمّيها أعيادًا سيّديّةً نِسبةً إلى السيّد. أمَّا الفِصحُ فهو عِيدُ الأعيادِ الذي يغَلِّفها جميعَها، فتُصبح بِالتّالي ثلاثة عشر عيدًا. هذا ليس أمرًا عَبَثيًّا، بل مِحوَرِيًّا وجَوهَرِيًّا. فَمسيرَةُ حياتِنا كُلُّها تدور بَينَ الصَّليبِ والقِيامَيّة لأننّا في معركة دائمة لا تعرف السكينة.

وميزةُ المسيحيّ أنّه إنسانٌ قيامِيّ، إذ عندما نَلبَسُ المَسيحَ بِمعمودِيَّتِنا، ونجدِّدُ هذا اللباسَ بِتَوبَتِنا، نَخرُجُ من كُلِّ معارِكِنا مُنتَصِرينَ بِمحبَّةِ المَسيحِ اللامُتناهِيةِ والحَقّةِ والعَادِلة.

يسوعُ هُوَ الحَياةُ، وهَذهِ الحَياةُ لا يُبطِلُها مَوتٌ جَسديٌّ بل عَدمُ التَّوبَة. فهذا السُّؤالُ الّذي طَرحَهُ الرَّبُّ على حَامِلاتِ الطّيبِ، وهُنَّ خَائِفَاتٌ وَمُنَكِّسَاتٌ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ "لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ"؟(لوقا ٥:٢٤)، هو سُؤالٌ دائِمٌ يَطرَحُهُ الرَّبُّ علينا في كُلِّ حِين.

صَحيحٌ أنَّنا مَرَرنا ونَمُرُّ وسَنَمُرُّ بِصِعابٍ شَديدة، وقد نَجِدُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ مَسدودٌ أمامَنا، إلّا أنَّهُ يَجِبُ ألّا نَنسى أنَّ حَجرَ القّبرِ الّذي وُضِعَ فيهِ يَسوعُ كان كَبيرًا جدًّا، وتَدَحرَجَ أمامَ النُّورِ الإلهيِّ البَازِغِ مِنَ القَبر.

هذا النُّورُ يُزيلُ من أمَامِهِ كُلَّ ظُلمَة.

في العَهدِ القَديمِ كانَ الفِصحُ عُبورَ الشَّعبِ اليَهوديّ مِن العَبُودِيَّةِ إلى الحُريَّةِ، ولكن سُرعَانَ ما انتَقَلَ اليَهودُ إلى عُبُوديَّةٍ أخرى وهي تَعظِيمُ الذّات. في العَهدِ الجَديدِ أصبحَ العُبورُ منَ الأنا القَاتِلَةِ إلى الـ "أنتَ" المُحيية، أي أَلبَسُكَ يا مَسيحي وأَموتُ مَعَك، وأعبُرُ معكَ دَيجورَ المَوت، وأقُومُ معكَ إلى حَياةٍ أبدِيَّةٍ أتذَوَّقُها مِنَ الآن.

هذا التذوُّقُ خَبِرَهُ القِدّيسُونَ في حَياتِهِم وتَرجَمُوهُ يَقِينًا. فسِيرَةُ القِدّيسِ بُوليكَربُس أُسقُفِ ​أزمير​ (١٥٦م) تُخبِرُنا كيف أن هذا الشَّيخِ الجَليلِ الطّاعِنِ في السِّن (بلغَ حوالي التّسعين من عمرِه)، وَقَفَ رافِعًا رأسَه، ووجهُهُ يُشِعُّ نُورًا وسطَ لهيبِ النَّارِ الّتي كانت تُحرِقُهُ عِقابًا على رَفضِه أن يَسجُدَ للآلِهةِ الوثنيّة. هذه هي قوّة القِيامَة في الإنسانِ المُؤمِنِ.

بُوليكَربُس، وهُوَ اسمٌ يُونانيّ يَعني "كَثيرَ الثَّمر"، مِثالٌ لآلافٍ مِنَ القِدّيسينَ الّذينَ ارتَسمت على وُجوهِهم ثِمارُ القِيامة. وهذا ما نَحتاجُهُ اليومَ، أن يَكونَ وجهُنا قِياميًّا، وليسَ وَجهًا مَهزُومًا ويائِسًا يَبحَثُ في الفَراغ.

في الحضارةِ الرُّومانيَّةِ كانَ القائدُ العَسكريّ المُنتَصِرُ يَدخُلُ المَدينةَ على رأسِ جَيشِهِ باحتِفالٍ مَهيب، وكانتِ الفَرحةُ المَرسومةُ على وُجوهِ الجَميعِ تُعبِّرُ عن تَبنِّيهِم للحَدَث. فانتِصارُ قائدِهم هو انتِصارُهم، وفرحته فرحتُهم.

كذلكَ نحنُ، عِندَما نَقولُ "إذ قَد رَأينا قِيامَةَ المَسيح... وهَلُمّوا يا مَعشرَ المُؤمِنينَ نَسجدُ لِقِيامَةِ المَسيحِ المُقَدَّسة، لأنَّهُ هوَذا بِالصَّليبِ قد أتى الفَرحُ لِكُلِّ العَالَم.. .وبِالمَوتِ لِلمَوتِ أبادَ وحطَّم."، نَحنُ نَعي ما نَقولُ إيمانًا وعَيشًا.

نحنُ رَأينا ونَأمَلُ أن يرى الآخَرونَ هَذِهِ القِيامَةَ في وُجُوهِنا.

وإن كانَ التّاريخُ الرُّومانيُّ يُدوِّنُ أسماءَ المُنتصِرينَ وانتِصاراتِهم في جَداولِ الانتصارات Fasti triumphales، فأسماؤنا ستُدَوَّنُ في سِفرِ الحَياةِ إن اتَّحدْنا بِالقائِمِ ومُعطي الحَياة.

المسيح قام.