يُواصل ​لبنان​ الدوران في الحلقة المُفرغة منذ إستقالة رئيس حُكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، بعد أيّام قليلة على إنفجار الرابع من آب 2020 . ومن وساطة إلى أخرى، ومن تدخّل إلى آخر، ومن رهان إلى رهان، ومن تطوّر إقليمي إلى آخر... ينتظر الجميع "ولادة" أي حُكومة جديدة، من دون نتيجة مُثمرة بعد! فهل الوضع مُختلف هذه المرّة، في ظلّ التدخّلات الدَوليّة والتحوّلات الإقليميّة الكُبرى؟.

إقليميًا، الأنظار مَشدودة إلى ما ستؤول إليه المُفاوضات القائمة مع ​إيران​ حاليًا بشأن ملفّها النووي، علمًا أنّ إنعكاسات نهاية هذه المُفاوضات، أكانت إيجابيّة أم سلبيّة، هي حتميّة على المنطقة ككلّ، وتحديدًا على مُختلف الساحات التي يُوجد لإيران نُفوذ فيها، ومنها الساحة اللبنانيّة بطبيعة الحال. تذكير أنّ الإتفاق النووي الذي كان تمّ في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ​باراك أوباما​، والذي عاد وألغاه الرئيس الأميركي السابق ​دونالد ترامب​، كان صبّ في مصلحة إيران، وعزّز نُفوذها إقليميًا. ويُوجد حديث مُتزايد حاليًا، عن أنّ هذا الأمر سيتكرّر في المُستقبل القريب، في نهاية جولات التفاوض الجديدة لإعادة تفاهم ​العالم الغربي​ مع إيران. والأكيد أنّ أي تنازل مُحتمل من جانب إيران، في مُقابل رفع العُقوبات عنها بشكل كامل والعودة إلى الإتفاق النووي، لن يكون في مواضيع مُرتبطة بملفّات لبنان الداخليّة، بل العكس هو الصحيح. والتنازلات إن حصلت في إطار تسوية شاملة مع ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة والدول الخليجيّة، ستكون في ملفّات تهمّ أمن ​إسرائيل​ بالدرجة الأولى، وأمن السعوديّة بالدرجة الثانية.

وعلى خطّ مُواز، يُوجد حراك خليجي نحو النظام السُوري الذي يتجه إلى التجديد للرئيس بشّار الأسد لسبع سنوات إضافيّة، في ظلّ دعم روسي–إيراني وعدم مُمانعة دَوليّة. والهدف من هذه الإتصالات التي تتمّ إنطلاقًا من الإعتراف بالأمر الواقع الذي فرضته نتيجة الحرب في ​سوريا​، إعادة تطبيع العلاقات ووصل ما إنقطع مع سوريا، تحت عنوان إعادتها إلى الحُضن العربي. لكن في الواقع، ما يحصل هو مُحاولة سُعوديّة لما صار يُسمّى "تصفير" المشاكل مع مُختلف الجهات الإقليميّة، سعيًا لوقف الهجمات على أراضيها، من خلال إنهاء ملف حرب ​اليمن​. وتملك السُعوديّة ورقة تفاوض مُهمّة مع إيران بيدها، لجهة تمييز نفسها عن الدول العربيّة والخليجيّة التي قامت بالتطبيع مع إسرائيل، على أن تنعم بدورها بالهدوء على أراضيها. ولا شكّ أنّ الملفّ اللبناني يحتلّ مرتبة مُتأخّرة في الإتصالات القائمة حاليًا، بين السُعوديّة من جهة وكلّ من إيران وسوريا من جهة أخرى، حيث أنّ الأولويّة هي لملفّات إقليميّة أكثر أهميّة بكثير.

بالعودة إلى ساحة لبنان الداخليّة، إنّ حراك وزير الخارجيّة الفرنسي، ​جان إيف لودريان​، الذي أجرى إتصالات كثيفة في لبنان خلال الساعات الماضية، حاملاً سيف العُقوبات بيده، إنّ المُشكلة الأساس تكمن في قُدرة التعطيل المُتبادل بين الأفرقاء السياسيّين المَعنيّين. وهذه القُدرة بالتحديد هي التي تدفع كل طرف إلى التشدّد في مواقفه وفي تعنّته، من دون تقديم أي تنازل لمصلحة لبنان والشعب اللبناني–ولوّ على حساب المصلحة الطائفيّة أو الحزبيّة أو الشخصيّة، إلخ. وما لم تنجح الإتصالات الأخيرة، والتي تتمّ في ظلّ تدخّلات وضُغوط دَوليّة، في إحداث الخرق المَنشود، فإنّ الوضع اللبناني سيكون مَفتوحًا على خيارات عدّة، أحلاها مُرّ.

وحتى لوّ سلّمنا جدلاً، أنّ رئيس الحُكومة المُكلّف ​سعد الحريري​ إعتذر عن إستكمال مهمّة التشكيل، فإنّه لن يفقد قُدرته على التعطيل، علمًا أنّ فرض أيّ رئيس جديد للحُكومة بالقُوّة سيكون في غاية الصُعوبة، بسبب عدم توفّر أغلبيّة مُناسبة لهذا الأمر. ولا شكّ أنّ الحريري يملك بيده–في حال إبعاده ومُحاولة حصاره، خيار إستقالة كامل كتلته النيابيّة، وهو مطلب يدعو إليه حزبا "​الكتائب​" و"القوّات" منذ فترة، ومن شأن إستقالة نوّاب "المُستقبل" و"القوّات" وبعض النوّاب المُستقلّين، خفض عدد نوّاب المجلس من 118 حاليًا(1)، إلى أقل من ثمانين نائبًا، حتى من دون إستقالة كتلة الحزب "الإشتراكي"، أي عمليًا إفقاد المجلس أغلبيّة الثلثين الضروريّة لإنعقاده في حالات مُحدّدة مهمّة، مثل التصويت على إنتخاب رئيس للبلاد. في المُقابل، إنّ "التيّار الوطني الحُرّ" برئاسة الوزير السابق ​جبران باسيل​، قادر من جهته على إفقاد الشرعيّة الميثاقيّة لأي حُكومة–وبطبيعة الحال لأيّ رئيس حُكومة، في حال عدم التصويت لصالح الحُكومة المُختارة ورئيسها، لا سيّما في ظلّ إستمرار حزب "القوات" بمُعارضة أيّ حُكومة مُنبثقة من السلطة الحاليّة، ومُطالبته بإنتخابات نيابية مُبكرة لإعادة إنتاج السُلطة، قبل أيّ شيء آخر.

في الختام، يُمكن القول إنّه بمُوازاة التدخّلات الخارجيّة والتطوّرات الإقليميّة البالغة الأهميّة، إنّ سياسة التعطيل المُتبادل التي إعتمدتها القوى اللبنانية الأساسيّة بوجه بعضها، دمّر لبنان إعتبارًا من العام 2005 حتى اليوم! ومن شأن الإستمرار بهذه السياسة، من دون إستعداد أيّ طرف لتقديم التنازلات، أن يقضي على أي أمل بإمكان إصلاح ما تهدّم في المُستقبل.