هنالك من يشبه المعركة الدائرة في غزة بتكرار ولو مُصغّر للحرب التي شنّتها ​اسرائيل​ على ​لبنان​ في العام 2006، فهنالك عدد من الجوانب المشتركة بين الامس واليوم، اضافة الى نتيجة واحدة: هزيمة غير متوقعة للجيش الاسرائيلي. فعلى رغم من مرور 15 عاماً وحصول محاكمات وإعادة تقييم واستخلاص للعبر، الّا أن بنك الاهداف الذي حددته ​الاستخبارات الاسرائيلية​ أصاب كل شيء ما عدا البنية ال​عسكري​ة لحركة «حماس» تماماً كما حصل في العام 2006 مع «حزب الله».

لذلك شَرع ​الجيش الاسرائيلي​ في تكرار قصفه للمواقع نفسها ومعه كان واضحاً ان ​المقاومة الفلسطينية​ التي تحضّرت جيداً خلال السنوات الماضية، نجحت كما «حزب الله» في وضع عازل فولاذي امام خطط تسليحها وتدريب أفرادها، ما جعلها عصيّة على اي اختراق استخباراتي اسرائيلي. وبَدا الجيش الاسرائيلي الذي كان يريد جولة عسكرية خاطفة، مرتبكاً أمام الانواع ​الجديدة​ للصواريخ التي باتت تمتلكها ​الفصائل الفلسطينية​، إضافة الى الأعداد الكبيرة ما سمح لها بإطلاق نحو 1000 ​صاروخ​ في اليومين الاولين. وقد سمح التدريب الدقيق والتخطيط البارد الى التغلب على ​القبة​ الحديد ومفاجأة اسرائيل في البحر ايضاً. وهو ما أكسب الفصائل الفلسطينية جرأة متتالية واضحة. الخبراء العسكريون يعتقدون ان بصمات «حزب الله» ظهرت بوضوح في غزة. طبعاً بالاضافة الى الدعم السخي ل​إيران​ على مستوى ​الاسلحة​ وطريقة تصنيعها.

من يتابع ​الاعلام الاسرائيلي​ يلمس في وضوح عمق الاهتزاز المعنوي الذي يعيشه الشارع الاسرائيلي. فهنالك من بَدا متشائماً ويتحدث عن ان اسرائيل قد لا تكون موجودة عند الوصول الى المئوية الاولى لنشوء دولتها. اضافة الى كلام كثير حول فقدان الشعور بالامان. الواضح انّ اول نتائج هذه الجولة هو تراجع الثقة بديمومة الكيان. فليس تفصيلاً ان حركة «حماس» أمسكت بزمام المبادرة خلال المواجهات وجعلت سكان ​تل أبيب​ ينزلون الى الملاجئ وفق توقيتها، واستهدفت اجزاء من ​القدس​، والأهم انتفاضة العرب في البلدات المختلطة داخل الخط الأخضر وفي ​الضفة الغربية​ ايضا، وجاء الاضراب الشامل للمرة الاولى ردا واضحا على تجاوز الانقسامات التي كانت تعوّل عليها اسرائيل دائماً.

في الاعلام الاسرائيلي كلام حول فشل القيادتين السياسية والعسكرية، وهو ما يُنذر بطوفان سياسي وعسكري داخل اسرائيل في المرحلة المقبلة.

ويبدو انه كما كان ايهود اولمرت اولى ​ضحايا​ حرب العام 2006، ما سمح بفتح ابواب ​السجن​ امامه، فإنّ ​نتنياهو​ الذي راهن على انتصار له في بداية المعركة سيكون احد ابرز ضحايا هذه العركة مع الاشارة الى ان خسارته السياسية ستعني حكماً دخوله السجن ايضاً.

خلال الايام الماضية حاول نتنياهو التهرب من الاتفاق على وقف ل​إطلاق النار​ رغم إدراكه أن بنك الاهداف اصبح خاوياً، وان الطائرات تقصف المواقع نفسها. هو فعلياً يريد وقفاً لإطلاق النار، شرط ان يكون تلقائياً لا من خلال اطار رسمي لكي لا يضطر الى الدخول في مفاوضات من المفترض ان تبحث في اسباب ​انفجار​ المواجهة، اي في موضوع القدس وعائلات حي الشيخ جراح وموضوع الاسرى.

هو يدرك جيداً أنه سيكون مضطراً الى الاقرار بأخطائه، وبالتالي منح ​الفلسطينيين​ نقاطاً سياسية ثمينة. لكنه في نهاية الامر سيضطر الى ولوج هذه المفاوضات وبالتالي الاقرار بالهزيمة، واستطراداً الى تراجع شعبيته في صفوف اليمين وخسارة ​الانتخابات​ المقبلة بفارق مريح. ذلك ان تقاذف المسؤوليات بدأ بين ​الحكومة​ والجيش حول اسباب الفشل.

والفشل الاهم هو مع تبدّل المزاج الدولي لمصلحة الفلسطينيين، وهي الورقة التي كان يتغنّى بها نتنياهو على الدوام بأنه عزّز حضور اسرائيل على المسرح العالمي. الأرجح انّ اسرائيل، واستناداً الى تجاربها السابقة، ستذهب في اتجاه فتح ابواب المحاكمات لتحديد المسؤوليات، وسط دعوات لإصلاح الجيش.

أما على الصعيد السياسي فالأرجح حصول تحولات جذرية مع تراجع نتنياهو عن واجهة المسرح السياسي وربما غيابه النهائي، وهو ما قد يرحّب به ولو ضمناً ​البيت الابيض​. وهذا الواقع قد يفتح الباب امام جهود اعادة إحياء حل الدولتين من خلال اعادة تنشيط الوساطة الاميركية. وهو في الوقت عينه سيسمح ل​واشنطن​ باستكمال مفاوضاتها مع ​ايران​ بهدوء وبعيداً عن الشغب الاسرائيلي. لكن ايران التي كسبت بإعادة وضع ​القضية الفلسطينية​ عند رأس اهتمامات الشعوب العربية، بات طيفها حاضراً بقوة في غزة. بالتأكيد لن تهضم العواصم العربية هذا الحضور الايراني، فما بين ​اليمن​ وفلسطين ولبنان بات خطاً ثابتاً يبعث على القلق.

وهناك بوّابتان للدخول الى غزة: الاولى قطرية والثانية مصرية. وثمة بوابة ثالثة سيحتاجها الجميع وهي بوابة ​الاقتصاد​ والانماء والاعمار. اضافة الى الدور الذي سيجري اعادة تلميعه من خلال ​السلطة الفلسطينية​. وهو ما يعني ان الورشة الفلسطينية ستكون ​حافلة​ مستقبلاً على وقع ​الاتفاق النووي​ الذي ينتظر ​اقفال​ صناديق الاقتراع في ايران. يبقى ان كل هذه الجلبة لن تترك لبنان بعيداً.

ف​إسرائيل​ التي تعطّلت منصاتها النفطية في البحر ستبقى تحت صدمة عدم قدرتها على حماية استخراجها للغاز من البحر.

وقد لا يكون مبالغاً فيه الاشارة الى أن هذا المشهد سيحضر ولو من دون صوت في مفاوضات الناقورة عندما ستستعيد حيويتها. لا بل ان الشركات المهتمة ب​التنقيب​ عن ​الغاز​ ستحتفظ بهذه الصورة داخل حقائبها. ولكن الداخل اللبناني على موعد مع محطتين اساسيتين وهما ​الانتخابات النيابية​ والرئاسية. من دون شك إن كلاما كثيرا في الكواليس لا بد ان يحصل بعد اعادة احياء الاتفاق النووي وقبل ايار 2022 موعد الاستحقاق الاول، اي الانتخابات النيابية.

لكن كما على الساحة الفلسطينية فإن البوابة الاقتصادية تبقى المدخل الاكثر تأثيراً في لبنان. وقد يكون من اعتبر نفسه غير معني او مهتم بالتأثير بالساحة اللبنانية مُلزم بإعادة النظر في حساباته نتيجة التبدلات الكبيرة في المعادلات على الساحة الفلسطينية والاستحقاقات واعادة رسم خريطة النفوذ على الساحة السورية.