منذ انتهاء جلسة ​مجلس النواب​ بعد ظهر السبت الماضي، التي ناقشت رسالة ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ حول خلفيّات التأخّر في تشكيل ​الحكومة​، وانتهت بدعوة رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ إلى المضيّ بعملية التأليف وفقًا لمقتضيات ​الدستور​، يتصرّف المقرّبون من الأخير وكأنّه حقّق "نصرًا نوعيًّا"، لا نقاش بشأنه.

بالنسبة إليهم، يكفي أن تكون الجلسة أتت بـ"مفعول عكسيّ" لذلك الذي كان يتوخّاه "العونيّون"، وجدّدت "التفويض" المُعطى للحريري، بدل "سحب التكليف" منه، في "سابقة دستورية" يتنصّل الفريق الرئاسيّ منها، حتى يعتبروا أنّ رئيس الحكومة المكلَّف خرج من الجلسة "رابحًا"، بعدما تمّ تكريسه "رئيسًا مكلَّفًا" بقوة الأمر الواقع.

لكنّ "المفارقة" التي يسجّلها خصوم الحريري، أنّه ما إن حصد هذا "التفويض"، حتى عاد أدراجه، لا إلى ​بيت الوسط​، ولكن إلى الخارج، وتحديدًا إلى ​الإمارات​، مثبِّتًا، من حيث يقصد أو لا يقصد، الاتهامات الموجَّهة له بـ"العجز" عن ​تأليف الحكومة​، أو بالحدّ الأدنى، التقاعس عن أداء واجباته، بل انتظار "الفَرَج".

فكيف ينبغي للحريري أن "يستفيد" من جلسة البرلمان التي نصّب نفسه "منتصِرًا" بنتيجتها؟ وهل توحي المؤشّرات الأولية بمثل هذا "السيناريو"، أم أنّ الملفّ الحكوميّ عاد بعد الجلسة إلى "جمود" ما قبلها، بما يبدّد أيّ آمالٍ بإحداث "خرقٍ ما"، مهما كبُر أو صغُر حجمه؟!.

"استياء عام"

صحيح أنّ مجريات جلسة البرلمان الأخيرة أوحت بـ"انتصار شكليّ"، على الأقلّ، للحريري، الذي حافظ على موجبات "تكليفه" الدستوريّة والسياسيّة، وثبّت التفاف الكتل التي سمّته أساسًا حوله، باستثناء كتلتي "​لبنان القوي​" و"​الجمهورية القوية​"، اللتين لم تسيرا بالتوافق عليه منذ اليوم الأول، ولو أنّهما لا تتقاطعان بالمُطلَق في الأسباب الموجبة والدوافع.

ويذهب أصحاب وجهة نظر "انتصار" الحريري أبعد من ذلك، بالقول إنّه نجح في تكريس "احتضانه" من جانب "أمتن" حلفاء رئيس الجمهورية، "​حزب الله​"، الذي لم يكن وقوفه على الحياد، وفي منطقة الوسط، سوى رسالة "سلبيّة" إلى "​التيار الوطني الحر​"، وأكثر من "إيجابية" بالنسبة إلى رئيس الحكومة المكلفّ، لما تنطوي عليه من "حصانة" معنويّة على الأقلّ، في "معركته" التي لا يبدو أنّها ستنتهي عمّا قريب.

لكنّ كلّ ذلك في وادٍ، و"مفاعيل" الجلسة في وادٍ آخر، بحسب ما يرى العارفون، ممّن يشيرون إلى أنّ هذا "الانتصار" الذي حقّقه الحريري لم يُترجَم على أرض الواقع، بل على العكس من ذلك، ثمّة "استياء" متصاعد من أدائه، حتى في صفوف داعميه، الذين لم يرتاحوا مثلاً لمغادرته "على عجل" من حيث أتى، وكأنّه "قضى واجبًا" بحضور الجلسة والردّ على الرسالة "الرئاسيّة"، لينتهي دوره عند هذا الحدّ ويعود إلى "اعتكافه" شبه المُعلَن.

ولعلّ ما أثير في ​الساعات​ الماضية عن "استياء" من أداء الحريري عبّر عنه البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​ أكثر من معبّر، علمًا أنّ التسريبات تشير إلى أنّ "الامتعاض" مزدوِج، فهو يستند من جهة إلى "المضمون القاسي" لكلمة رئيس الحكومة المكلَّف في البرلمان، والتي لم تترك "خط رجعة" مع "العهد"، ومن جهة ثانية، إلى الممارسة التي لم تتطابق مع "الوعود" التي قطعها رئيس الحكومة المكلف ل​بكركي​ وغيرها.

أين "المبادرة"؟

عمومًا، وبمُعزَلٍ عن كلّ ما سبق، وبافتراض أنّ الحريري هو من حقّق "الانتصار" فعليًا في جلسة البرلمان، يؤكّد العارفون أنّ "توظيف" هذا الانتصار لا يمكن أن يتمّ سوى بـ"مراجعة" الأداء، وذلك يتطلّب بالدرجة الأولى، وبالحدّ الأدنى، "مبادرة" الحريري من جديد، لإعادة التواصل مع ​قصر بعبدا​ لاستكمال عملية تأليف الحكومة.

ويشير البعض في هذا الإطار، إلى أنّ "تفويض" مجلس النواب كان واضحًا، فهو دعا الحريري إلى المضيّ بعمليّة تأليف الحكومة، وفقًا للمقتضيات الدستورية، وبالتفاهم مع رئيس الجمهورية، علمًا أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري "تعمّد" في كلمته يوم الإثنين، تكرار "ثابتة" أنّ معضلة تأليف الحكومة "داخليّة" بالمُطلَق، وهو ما يفرض تلقائيًا التواصل بين المكوّنات المعنيّة بالتأليف لحلّ العُقَد والإشكاليّات.

ويرى هؤلاء أنّ "سفر" الحريري إلى الإمارات مباشرةً بعد الجلسة لا يصبّ في صالحه، بل هو يكرّس في مكانٍ ما المنطق "العونيّ" الذي يتّهمه بالتقاعس، لا سيما وأنّ طريق بعبدا أقرب إلى بيت الوسط من كلّ العواصم التي يزورها، في حين أنّ التسلّح بفرضيّة أنّه يسعى لتأمين "حيثيات" نجاح الحكومة بعد تشكيلها من خلال العلاقات الدولية لم يعد مستقيمًا، خصوصًا بعدما تبيّن أنّ الحريري نفسه يفتقد للمظلة الدولية اللازمة.

ويشدّد العارفون انطلاقًا من كلّ ما سبق، على أنّ "الكرة" في "ملعب" الحريري، وعليه أن "يبادر" فورًا للعمل بـ"توصية" مجلس النواب التي هلّل لها، على أن يُبنى على كلّ شيء مقتضاه، ولعلّ الخطوة الأولى الواجبة في هذا الإطار تكمن في أن يقدّم لرئيس الجمهورية تشكيلة حكوميّة جديدة، قد تكون من 24 وزيرًا، وبما ينسجم مع "روحيّة" مسعى رئيس مجلس النواب ووساطة البطريرك الماروني، وقد يفسح المجال أمام المعالجات والمتابعات اللاحقة.

متى "يبادِر" الحريري؟

"هلّل" فريق رئيس الحكومة المكلف لنتائج جلسة البرلمان الأخيرة، واعتبر أنّ الحريري كُرّس "رئيسًا مكلَّفًا للحكومة"، شاء من شاء وأبى من أبى، وبرضا رئيس الجمهورية ومباركة رئيس "التيار الوطني الحر"، أو بمُعزَلٍ عن موقفهما.

أوحى فريق الحريري بأنّه "انتصر" على "العهد" تمامًا كما فعل يوم حصد أصوات أغلبية النواب، رغم "النداء" الذي وجّهه لهم الرئيس عشية الاستشارات، محاولاً من خلاله ثنيهم عن تسميته، تحت ستار التحذير من الويل والثبور وعظائم الأمور.

لكنّ الحريري لم "يستثمر" هذا "الانتصار" عمليًّا على خطّ تأليف الحكومة، فجاءت النتيجة "باهتة"، بحيث عاد لـ"يحتجز ورقة التكليف" في جيبه، وفق الاتهامات الموجَّهة إليه، من دون حسابٍ للتداعيات التي يمكن أن تترتّب على ذلك.

للحريري خصومه الذين يريدون "إحراجه فإخراجه"، بلا شكّ، وقد يكون "العهد" على رأسهم، لكنّ له مؤيّدين في المقابل، "يستعجلونه" تأليف الحكومة لمساعدته، أمرٌ لا يبدو قريب المنال، طالما أنّ الحسابات الخارجية والإقليمية لا تزال تطغى، رغم كلّ ما يُقال...