حقّق ​المجتمع المدني​ّ ما وُصِف بـ"الانتصار غير المسبوق" في ​انتخابات​ ​نقابة المهندسين​ التي جرت يوم الأحد الماضي، بعدما نجحت لوائحه في اكتساح القوى والأحزاب السياسيّة التقليديّة مجتمعةً، في رسالةٍ وضعها كثيرون في خانة "الموقف الواضح" من الشعب إزاء السلطة، في ظلّ "التخبّط" الذي أوقعت البلاد فيه على أكثر من صعيد.

برأي كثيرين، فإنّ ما حصل في انتخابات نقابة المهندسين شكّل "ثورة" حقيقيّة في زمن غياب الحراك المطلبيّ الحقيقيّ على الأرض، لا سيّما وأنّ الشعار الذي خاض المجتمع المدني الاستحقاق على أساسه كان "ثوريًا" بامتياز، وهو "النقابة تنتفض"، وقد أضاف إليه كثيرون عبارة "فتنتصر" في ضوء النتائج التي تحقّقت.

لكن، في المقابل، ثمّة من يحجّم هذا "الانتصار"، ليضعه في إطار ضيّق، تعبّر عنه طبيعة الانتخابات "النقابيّة" بالدرجة الأولى، لا سيّما أنّه ليس الأوّل من نوعه في العديد من النقابات، ونقابة المهندسين على رأسها، وهو ما لا يعكس بالضرورة "النبض الشعبيّ"، الذي أظهرت ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة مثلاً أنّه لا "يتطابق" مع ذلك النقابيّ.

إزاء ذلك، ما الذي يعنيه "الانتصار المدني" في انتخابات نقابة المهندسين؟ وكيف يتلقّفه السياسيّون في واقع الأمر؟ هل من "ترجمة" له في السياسة الراهنة؟ وهل ينعكس على الانتخابات النيابية المقبلة، إن حصل في موعدها؟.

"أقلّ" من "انتصار"؟!

يقلّل السياسيّون المحسوبون على الأحزاب النافذة الأساسيّة من أهمّية النتائج التي تمخّضت عن انتخابات نقابة المهندسين، باعتبار أنّها انتخابات "نقابيّة" في نهاية المطاف، وأنها لا تعني كثيرًا، ما يعني أنّ الفوز الذي احتفلت به قوى المجتمع المدني، على أحقيته وجدارته، يبقى "أقلّ" من "انتصار" بالمعنى الحرفيّ والسياسيّ للكلمة.

لكنّ هذا "المنطق" يبدو متناقضًا ومتعارضًا إلى حدّ بعيد مع طريقة تعامل القوى السياسية نفسها مع انتخابات نقابة المهندسين نفسها قبل حصولها، حيث لا يخفى على أحد أنّ السلطة سعت بكلّ طاقاتها وقدراتها إلى "تطيير" الاستحقاق، وأرجأته مرارًا وتكرارًا لأعذار وأسباب كثيرة، من بينها قيود ​كورونا​"، حينما ارتأت بكلّ بساطة أن توصي بمنع الانتخابات، في وقتٍ كانت تسمح بفتح كلّ أماكن التجمّعات والسهر.

يرى كثيرون أنّ السلطة كانت تخشى بالفعل من نتيجة انتخابات نقابة المهندسين، الأمر الذي ظهرت مبرّراته وأسبابه الموجبة في نهاية اليوم "النقابيّ"، حيث أوصل المهندسون، الذين يعبّرون عن طيف مجتمعيّ واسع، ويمثّلون التنوّع القائم في ​المجتمع اللبناني​، بكلّ أشكاله، رسالة "امتعاض" واضحة من أداء السلطة، التي لا تزال "تتمادى" في ممارساتها، من دون أيّ اعتبار للناس أو اكتراث لأوضاعهم "الكارثيّة".

لكن، مع ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ "الانتصار" الذي تحقّق لا ينبغي أن يُحمَّل أكثر ممّا يحتمل، خصوصًا أنّها ليست المرّة الأولى التي تبرز فيها قوى التغيير المدنيّ في الاستحقاقات النقابيّة، من دون أن تنجح في "توسيع" حركتها الاعتراضية، لتشمل الوطن بأسره، سواء من خلال تحرّكات منظَّمة تحاكي في مكانٍ ما "انتفاضة 17 تشرين"، أو من خلال انتخابات نيابية، تشكّل دون شكّ "المحكّ الأساسيّ" للتغيير الحقيقيّ والفعليّ، بعيدًا عن الشعارات.

بانتظار الانتخابات النيابية!

مع أنّه ليس "الانتصار المدني" الأول في نقابة المهندسين، ثمّة من يعطي نتائج الانتخابات الأخيرة أبعادًا سياسيّة واضحة، لا يصعب ربطها بالواقع السياسيّ "الصعب"، وبحالة "الامتعاض" الشعبيّ من أداء سلطةٍ لا تقوم بالحدّ الأدنى من مسؤولياتها، بل تبدو عاجزة عن مجرّد تأليف حكومة منذ أكثر من عشرة أشهر، وتصرّ على البحث عن مغانم شخصيّة ومطامع حزبيّة لا قيمة لها على أرض الواقع.

من هنا، يبدو الانتصار أكثر من مبرَّر ومشروع، لا سيّما وأنّ كلّ "المتردّدين" في العادة باتوا يميلون، من دون تفكير، إلى القوى "البديلة"، ولو كانت غير مجرَّبة، وفق "الذرائع" التي يكرّرها أنصار أحزاب السلطة، لأنّ هناك من وصل إلى قناعة أنّ "سوء" هذه "البدائل" لا يمكن أن يصل إلى المستوى الذي بلغته الأحزاب التقليديّة، ووفق مبدأ أنّ "من جرّب المجرَّب عقله مخرّب"، فكيف إذا كان هذا "المجرَّب" من طينة هذه القوى السياسيّة.

لكن، أبعد من انتخابات نقابيّة قد لا تعكس فعلاً النبض الشعبيّ الواسع، ثمّة من يعتقد أنّ فريقي السلطة والمعارضة ينبغي أن "يتلقفا" النتائج التي تحقّقت والبناء عليها في المرحلة المقبلة. صحيح أنّ هناك من يخشى أن يؤدّي ما حصل إلى "تجميد" أيّ اتجاه لدى قوى السلطة نحو الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، مع تعزيز "الشكوك" بإجرائها في موعدها، لكن هناك من "يتفاءل" بأنّها يمكن أن تشكّل "جرس إنذار" لهذه القوى، لعلّها تدرك وجوب الذهاب إلى مقاربة جديدة ومغايرة شكلاً ومضمونًا لكلّ ما سبق.

في المقابل، على قوى المجتمع المدني أن تتمعّن جيّدًا بالنتائج التي تحقّقت، وأن لا تقع في "أفخاخ" سبق أن وقعت بها، بالمبالغة في الرهان عليها والاعتقاد أنّ الكرة باتت في ملعبها، وأنّ الشعب بات مؤمنًا بالتغيير. من هنا، فإنّ المطلوب استكمال ما تحقّق نقابيًا على المستوى السياسيّ، ولعلّ "تنظيم" هذه القوى لنفسها قد يكون "المَدخَل" الفعليّ لأيّ تغيير، حتى لا يتكرّر مشهد "انقسامها الدراماتيكيّ" في الانتخابات النيابية، ولا تتكرّر "خطيئة" رفض فكرة التنظيم التي أطاحت بـ"ثورة 17 تشرين" عن بكرة أبيها.

حتى لا يضيع "الانتصار"

من حقّ القوى المدنية أن تهلّل لـ"الانتصار"، لأنّ أيّ ربحٍ على قوى السلطة، ولو كان محدودًا وموضعيًا، يستحقّ "الاحتفاء"، في مرحلة بات فيها "الصراع" على أشدّه مع أحزاب سياسيّة تواصل "إنكار الواقع"، وكأنّ الأمور في أفضل أحوالها.

من حقّ القوى المدنية أن تهلّل، طالما أنّ السلطة منهمكة بمواصلة سياسة أخذ البلاد إلى قعر الهاوية، فيما ​الحكومة​ "مجمَّدة" بانتظار "التوافق" على تقاسم "المغانم"، و​رفع الدعم​ انطلق عمليًا هذا الأسبوع، وسط غلاء وتضخّم وبطالة وكوارث متلاحقة.

لكن، من حق الناس على هذه القوى، التي تسعى لتنصيب نفسها "بديلاً" عن أحزاب السلطة، أن لا تكتفي بمثل هذا "الانتصار"، بل أن تذهب لخطوات فعليّة وملموسة لا تكرّسه فحسب، بل تؤسّس لما هو أكبر منه، وعلى مستوى الوطن كلّه.

قد يكون واجب القوى المدنية، بهذا المعنى، أن تؤطّر نفسها اليوم قبل الغد، وأن تعلن "خريطة طريق" فعليّة تسبق الانتخابات المُنتظرة، وتواجه أيّ محاولات لـ"تمييعها"، خصوصًا بعدما ثبُت أنّها قد تشكّل المَدخَل الفعليّ للتغيير، الذي لا يمكن أن يتحقق إذا ما انقسمت هذه القوى على نفسها كما في انتخابات 2018، بحُجّة أنّ "التنوّع قوّة"!.