لعلّ أسوأ ما في الأزمة التي يعيشها ​لبنان​ اليوم، هي أنّ معظم اللبنانيّين فقدوا الأمل بنهوض البلد من جديد. قد يكون المسيحيّون أكثر إحباطاً من غيرهم، لأكثر من سبب. ما حصل في ​الفاتيكان​ محطّ تقدير، ولكن يجدر ألّا يُحمّل أكثر ممّا يحتمل. ويدعونا هذا اليوم اللبناني المميز في الفاتيكان، الى تناول موضوع الحضور المسيحي في لبنان، من وجهة نظرٍ خاصّة، ومن باب طرح مادّة للنقاش.

خطيرٌ جدّاً أن يعتقد مسيحيّو لبنان بأنّ حضورهم فيه أمر ثابت نهائيّ، مهما تقلّبت الظروف أو ساءت، ومهما كثرت المخاطر والأخطاء، كي لا نقول الخطايا. والأخطر أن يظنّ مسيحيّو العالم بأنّ زوال المسيحيّين في لبنان أمر يمكن التعايش معه، كأنّه ما كان. عاشت فئةٌ مسيحيّة كبيرة وهْماً لعقود، وهو أنّ روح قدسٍ ما ميّزها عن الجماعات المسيحيّة الشرقيّة الأخرى التي انقرضت، أو تكاد، فغفا عن هؤلاء ليسهر دوماً علينا. والوهم الكبير عند بعض مسيحيّي العالم أنّ مسيحيّي لبنان تماماً مثل تلك الجماعات يحضرون معاً من دون فائدة ويزولون معاً من دون ضرر. وبين الواهمين عندنا أنّ زوال المسيحيّين هنا مستحيل، والواهمين هناك أنّ حضور المسيحيّين هنا عارض طارئ، المطلوب من ال​كنيسة​، ومن الفاتيكان خصوصاً، ألّا يسكت عمّا قد يأتي أو يحضّر، وأن يدرك أنّ موت مسيحيّي لبنان ممكن، وأنّ بقاءهم ضرورة تتعاظم وتتأكد ساعة فساعة. ربما يتحمّل بعض السياسيّين المسيحيّين مسؤوليّة عدم ممارسة العمل السياسي بموجب معتقدهم ودينهم، من حيث التزام القيم. وربما تكون الأحزاب المسيحيّة تحوّلت، في بعض المراحل، الى اسمٍ وإطارٍ مسيحيّين فحسب، فعجزت، غالباً، عن نشر القيم المسيحيّة ووقعت أحياناً في صراعاتٍ أخذت منحى دمويّاً أو جنحت نحو صراعاتٍ على السلطة، أو ارتبطت بعبادة الشخص، فكانت تضعف بضعفه وتزول بزواله.

والأمثلة كثيرة في التاريخ الحديث والقديم. من هنا، تردّي الأوضاع المسيحيّة وعجز بعض رجال السياسة عن توحيد الصفوف بل انصرافهم أحياناً الى تعميق الشرخ بين القواعد وإضعاف الدور المسيحي المحوري في لبنان والمنطقة. نضيف الى ذلك اهتزاز صورة رجال الدين، في مراحل عدّة، حين راحوا يحاولون ملء الفراغ والاهتمام برعاياهم مكان السياسيّين، وتحوّل بعضهم الى فريق بدل أن يكونوا الوعاء الذي يتّسع للجميع. وإذا تساءلنا عن المحبّة وعن مدى التزام معظم مسيحيّي لبنان بها، لوجدنا الكثير من الأمثلة التي تدعو الى الخجل، حرباً وسلماً. وماذا نقول، أيضاً وأيضاً، عن التعصّب الطائفي الذميم وعن ازدراء المسيحيّين بعضهم ببعض بسبب اختلاف مذاهبهم، وعن امتناعٍ ومنعٍ متبادل عن الاشتراك في الصلوات بين مذهبٍ مسيحي وآخر، وعن الاختلاف حول توقيت ​عيد الفصح​...؟

مرّة أخرى، الفاتيكان، ومعه كنيسة لبنان، أمام امتحانٍ عسير. لكنّ الامتحان هذه المرّة أصعب من سابقيه. لن ندخل هنا في أرقام هجرة المسيحيّين، وغالبيّتها نحو دولٍ بعيدة ما يعني أنّها هجرة دائمة. ولن نتوقّف عند انحلال الطبقة الوسطى في لبنان، وهي العصب المسيحي المثقّف الذي خرج منه كبارٌ في أكثر من وسطٍ وميدان. ولن نتحدّث عن انكفاء المسيحيّين عن الدخول الى إدارات الدولة لفترةٍ طويلة، وحين بدأت ملامح عودتهم حصل الانهيار. ولن نعدّد ما أصاب عناصر قوّة وتميّز المسيحيّين من خللٍ، من ​المدارس​ الى ​الجامعات​ و​المستشفيات​... ماذا بعد ذلك كلّه؟ ما من بدايةٍ أخرى لتحقيق النهوض المسيحي غير تخطّي الخلافات والتوحّد على مشروعٍ عام لا يلغي الاختلافات بل يوحّد الجهود. فلنتّفق، مثلاً، على تطبيق اللامركزيّة كما خضنا معركة ​قانون الانتخابات​ النيابيّة. ولندرك أنّ المسيحي اللبناني هو مسؤوليّة في أعناقنا، في علمه وعمله، وقيمه وقيمته. ولا يلغي ذلك قيمةَ غير المسيحي، الذي نتساوى معه حتماً في الواجبات والحقوق، فلا نتفوّق عليه أبداً، ولا يتفوّق علينا حتماً. ولكنّنا على ثقة، اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بأنّ لبنان من غير مسيحيّين شركاء أقوياء لا حاجة لوجوده. إنْ حصل وغاب المسيحيّون، سيكون مباحاً حينها إعلان وفاة لبنان.

هذه دعوة للتفكير، تتبع دعوة الفاتيكان للصلاة. وهذه وتلك، مع الإيمان المتجدّد بالمصالحة المسيحيّة، من أجل لبنان الذي نحبّ.