بعد أن أخرجت أميركا من العراق في العام 2011 بموجب اتفاقية أسميت «اتفاق الإطار الاستراتيجي» الناظم للعلاقة بين العراق وأميركا، الاتفاق الذي وقعته أميركا بضغط من المقاومة العراقية التي أوقعت بالقوات الأميركية عظيم الخسائر وجعلتها تدفع الثمن الباهظ مقابل احتلالها العدواني، بعد ذلك عادت أميركا إلى العراق في العام 2014 بصيغة احتياليّة جديدة وسمتها بعنوان «محاربة الإرهاب» الذي انتشر محتلاً أرضاً في العراق بإشراف أميركي، وهو إرهاب أنشأته ونظمته وسلحته أميركا تحت عنوان «الدولة الإسلامية في العراق» وتالياً في العراق وبلاد الشام «داعش» التي اتخذتها أميركا جسراً للعودة إلى العراق وللعبور منه إلى سورية، زاعمة أنّ قتالها يستوجب السنوات الطوال التي قد تمتدّ إلى 30 عاماً.

بيد أنّ العراقيين عرفوا كيف يواجهون الاحتلال الأميركي الثاني المنفذ بيد إرهابية، وعرفوا كيف يحشدون قوتهم الدفاعيّة تحت عنوان «الحشد الشعبي» ويفشلون الاحتلال الإرهابي ويستعيدون أرضهم، فادّعت أميركا عند سقوط «داعش» تحت أقدام الحشد الشعبي في العراق وتحت أقدام الجيش العربي السوري في سورية، ادّعت أنها هي وحلفاؤها من واجهوا داعش ومن صدّوا الإرهاب الذي أنشأوه، ممارسةً الإعلام التضليلي الموصوف الذي ينطوي على عظيم الخبث والخداع دون أن تنتبه إلى ما أوقعت نفسها فيه من تناقض عندما تتمسك بإبقاء وحدات عسكرية منها في العراق وسورية.

فالتناقض في الموقف الأميركي هنا واضح وأكيد، فإذا صحّ ما قالت به أميركا من أنها جاءت إلى العراق وسورية لقتال داعش وأنها قضت على داعش فإنّ عليها إخلاء الميدان وتركه لأهله، لكنها فعلت العكس حيث إنها وبعد أن روّجت لفكرة “الانسحاب الأميركي» من العراق خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة في إطار العمل باستراتيجية الانزياح إلى الشرق الأقصى وتطويق الصين وقطع طريق الحرير، اتجهت إلى تأطير وجودها في العراق تحت عناوين جديدة تبقي على الاحتلال من دون أن يمسّ في سلوك تمارسه بشكل خادع يؤدي في النهاية إلى استمرار انتهاك أميركا للسيادة العراقية بكلّ وضوح. ويبدو أنّ الرغبات والنيات الأميركية لم تتبدّل ولم تتغيّر كثيراً مع تغيّر الرؤساء من أوباما إلى ترامب ومنه إلى بايدن.

إذ بعد ما يقارب الستة أشهر على تولي بايدن السلطة توضحت إلى حدّ بعيد الاستراتيجية الأميركية المطوّرة في الشرق الأوسط بشكل عام وفي العراق وسورية بشكل خاص وهي كما يبدو استراتيجية تقوم على فكرة السيطرة بالوجود العسكري المحدود والإرهاب الاقتصادي الواسع، وتشتمل على عناصر خمسة أولها الاحتفاظ بالوجود العسكري المدروس في كل من العراق وسورية، والثاني تجنّب المواجهات والعمليات القتالية التي تستلزم وحدات قتالية معتبرة براً وجواً، والثالث إفساد الاستقرار الداخلي ومنع العودة إلى الحياة الطبيعية في الدولة والإقليم، والرابع الاستمرار بالحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي المنفذ تحت عنوان الحصار والعقوبات، وأخيراً امتلاك السيطرة على الحكومات القائمة وإلا منعها من الحكم المستقر.

لقد بلورت أميركا هذه الاستراتيجية في المنطقة استجابة لإملاءات الدولة العميقة فيها وأخذاً بما أفضت إليه نتائج الحرب الكونية التي فشلت أميركا عبرها من تحقيق ما تريد واتجهت إثر ذلك إلى مراجعة عناوين الوجود العسكري الأميركي في العراق وسورية، متوخية سحب الذرائع من يد المقاومة التي تخشى أميركا تشكلها في البلدين خاصة بعد المواقف العراقيّة الصريحة التي عبّر عنها مجلس النواب العراقي في قراره الذي تضمّن طلب خروج كافة القوات الأجنبية بما فيها الأميركيّة من العراق، وبعد المواقف الصريحة التي صدرت عن مسؤولي الحشد الشعبي وقادة الفصائل المسلحة فيها والتي تطالب أميركا بالخروج من العراق أو الاستعداد لمواجهة المقاومة فيه، ثم كان الموقف السوريّ الصريح والقاطع الذي اتخذه الرئيس بشار الأسد وأعلنه في خطاب القسم حيث أكد فيه على دعم الدولة السورية لأيّ مقاومة شعبية سلمية أو مسلحة تنطلق في مواجهة الاحتلال.

وعلى هذا الأساس أطلقت أميركا خديعتها الجديدة في العراق لتسقط عن وجودها صفة الاحتلال الذي يستوجب المقاومة، وتحتفظ بوجودها العسكري تحت عناوين “المستشارين» و»فرق التدريب» ولجان تقديم الخبرات والاستشارات العسكرية للجيش العراقي والقوى الأمنية العراقية الأمنية الأخرى. وترى أميركا أن تغيير عنوان الوجود العسكري كافٍ برأيها من أجل تعطيل التحشيد المقاوم ضدها، وجعل قواتها التي هي بحجم معلن يناهز الـ 4000 عسكري آمنين في قواعدهم العسكرية التي يمارسون منها مهام السيطرة على القرار والثروة والسياسة العراقية بما يحول دون انتظام العراق في محور المقاومة وبما يشكل برزخاً وسطاً يمنع تواصل مكوّنات هذا المحور كما يمنع العراق من الاستفادة من ثرواته ما يحول دون إعادة بناء الدولة العراقية القوية التي تؤهّلها جغرافيتها السياسية لإقامتها.

أما في سورية/ فقد كانت أميركا أشدّ وضوحاً ووقاحة حيث أعلنت بأنها ستحتفظ بوجودها العسكريّ في كلّ مواقعها غير الشرعية على الأرض السورية من الجنوب الشرقي حيث قاعدة التنف إلى الشمال الشرقي حيث حقل العمر النفطي وقواعدها ما بين الحسكة والشدادي، وإذا كانت في مسألة وجودها في العراق ادّعت أنها بدءاً من أول العام المقبل ستتوقف عن القيام بأية «عمليات قتالية» في العراق، فإنها في سورية لم تطلق الوعد ذاته بل كانت أشدّ فجوراً عندما أكدت على مهامها المستمرة هناك في دعم قوات «قسد» الانفصاليّة والسيطرة على مصادر الثروات الطبيعيّة في «الجزيرة السورية» وكامل المنطقة شمالي شرق الفرات لمنع الدولة السورية من الاستفادة منها في ترميم اقتصادها ومعالجة الآثار الوحشيّة التي سبّبها «قانون قيصر» الأميركي وباقي الإجراءات الكيدية الإجرامية الأميركية ضدّ سورية تحت عنوان العقوبات.

وعليه نرى أنه من المؤكد بأنّ أميركا في تصرفاتها تلك تمارس عدواناً موصوفاً على الدولتين العراقية والسورية، وتريد من حكومة العراق أن تمنحها براءة ذمة تشرع احتلالها المقنع، ويمكّنها من استمرار نفوذها بالشكل الذي شاءته يوم غزت العراق في العام 2003 حيث دمّرت الدولة فيه ومزّقته إرباً على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، أما في سورية وفي مواجهة الرفض الصريح والمعلن لاحتلالها وتوعّدها بالمقاومة التي تنتظرها فإنّها تبتدع مناورة احتيالية أخرى تستند إلى زعم بوجود طلب من فئة من السكان لمساندتهم وكان القانون الدولي يسمح لفئة من مواطني دولة ما بالاستعانة بالخارج ضدّ دولتهم وضدّ الحكومة الشرعيّة القائمة فيها.

إنّ أميركا بسلوكها هذا، ومع إصرارها على الاحتلال والتنكر للشرعية الدولية واستباحة الحقوق الوطنية السيادية للدول وعدم استجابتها للإرادة الشعبية في العراق وسورية وإمعانها في ممارسة احتلالها، تسقط الرهان على الإنهاء الطوعيّ للاحتلال في العراق وسورية. وتدفع الشعب في كلّ من سورية والعراق إلى تشكيل مقاومته التي تحمي حقوقه وتنقذها من إنياب المفترس الأميركي، ولأميركا تجارب غير مشجعة لها مع مقاومة الشعوب بدءاً من فيتنام مروراً بالعراق وصولاً إلى أفغانستان التي أجبرتها بعد 20 عاماً من الاحتلال على الرحيل دون أن تحقق شيئاً من أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.

نقول هذا لنخلص منه إلى الاستنتاج بأنّ المنطقة على موعد جديد من المواجهة في الميدان، لكنها هذه المرة لن تكون مواجهة مع الوكيل والأداة أو البديل الإرهابي حتى ولو ظهرت عصاباته بين الحين والآخر، بل إنها ستكون مواجهة مع الأصيل الأميركي الذي يعرف كيف طردته المقاومة العراقية في العام 2011، ونعتقد أنها لن تحتاج للمدة ذاتها (8 سنوات) لإخراجه من سورية والعراق.

وبصيغة أخرى نقول إنّ محور المقاومة الذي أفشل أخطر وأشرس حرب عليه، ودافع عن نفسه بنفسه وبدعم من حلفائه طيلة عشر سنوات حتى أجهض العدوان الأصلي عليه هو اليوم أشدّ قوة مما كان عليه قبل عشرة أعوام لكن المعضلة الأخرى التي ستوجهه وبشكل أدقّ سورية هي مسألة الحرب الاقتصادية الموجهة ضدّ دوله مباشرة وضدّ دول الجوار خاصة لبنان والعراق، حيث ستفرض الظروف البحث عن وسائل مواجهة اقتصادية ناجعة تمكن هذه الدول من الإفلات من القيد الأميركي وتمنع أميركا من تحقيق ما عجزت عن فرضه في الميدان العسكري عبر الحرب الاقتصادية.