منذ مُدّة لا بأس بها، يعيشُ ال​لبنان​يّون "كلّ يوم بيومه" - كما يقال، في ظلّ أجواء مَعيشيّة وحياتيّة صعبة، وآمال ضعيفة في ما خصّ المُستقبل. وإذا كان بعض اللبنانيّين يُعطي اليوم أهمّية لمسألة ولادة الحُكومة من عدمه، فذلك إنطلاقًا من إعتبارات مُختلفة تمامًا عن إعتبارات القوى السياسيّة التي تتصارع على السُلطة منذ سنوات، غير آبهة بالأوضاع المأساويّة التي حلّت على مُختلف القطاعات في لبنان.

بالنسبة إلى الرأي العام اللبناني، فهو يريد حُكومة بأسرع وقت مُمكن، ليس حُبًا برئيس الحُكومة المُكلّف ​نجيب ميقاتي​ على الإطلاق، ولا حُبًا برئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​ الذي كان مُرشّحًا لهذا المنصب قبله، ولا تعلّقًا بأي مُرشّح أو مسؤول آخر. فهمّ الناس هو إستعادة جزء من الإستقرار الداخلي الهشّ الذي كان سائدًا، إنطلاقًا من آمال بأنّ مُطلق أيّ حُكومة – بغضّ النظر عن هويّة رئيسها، وعن تركيبتها وشخصيّات وزرائها، هي أفضل من الفراغ الحالي على مُستوى السُلطة التنفيذيّة. والناس تريد إستقرارًا في سعر صرف ​الدولار​، وبالتالي في الأسعار بشكل عام، وتأمل أن يحصل لبنان على مُساعدات ماليّة وعينيّة من شأنها إعادة تحريك الدورة الإقتصاديّة، وربّما إيجاد بعض فُرص العمل، وذلك لأنّ القُدرة على الصُمود معيشيًا وحياتيًا تتلاشى يومًا بعد يوم، حيث تتوسّع دائرة ​الفقر​ والعوز وتتغلغل إلى شرائح جديدة من المُجتمع اللبناني.

بالنسبة إلى القوى السياسيّة، فحساباتها مُختلفة تمامًا، وهي غير مُستعجلة لتشكيل حُكومة، ما لم تخدم هذه الحُكومة مصالحها الإنتخابيّة. وهذه القُوى تعرف تمامًا أنّ الحُكومة المُقبلة ستشرف على الإنتخابات النيابيّة في ربيع العام 2022، وهي قد تكون موجودة بعد بضعة أشهر من ذلك - ولوّ بحكم المُستقيلة، لتُشرف على الإنتخابات الرئاسيّة في خريف العام عينه. وهذه القُوى تعلم علم اليقين أنّ العديد من الوزارات مُهمّة لتوظيفها في المعركة الإنتخابيّة المُرتقبة، بدءًا بوزارة الداخليّة التي تُشرف على الإنتخابات، مُرورًا ب​وزارة العدل​ التي يُمكن أن تستخدم لفتح ملفّات ضُدّ شخصيّات وقوى معيّنة بهدف إحراق أوراقها إنتخابيًا، وُصولاً إلى وزارة الشؤون الإجتماعيّة التي يُمكن أن تُستخدم لتحديد هويّة العائلات التي ستستفيد من "البطاقات التموينيّة"، إلخ. وباقي الوزارات لا تقلّ أهميّة على الإطلاق، لتقديم خدمات مُختلفة للناخبين، أو للتأثير على الرأي العام، إلخ. وفي ذهن القُوى السياسيّة نفسها، أنّ الحُكومة التي قد تتشكّل، قد تبقى في الحُكم كسلطة أمر واقع، في حال تعذّر إجراء الإستحقاقات الإنتخابيّة، لأيّ سبب كان، وهذا إحتمال قائم.

حتى أنّ القوى السياسيّة التي أعلنت رفضها المُشاركة في الحُكومة، تنطلق من إعتبارات وحسابات إنتخابيّة أيضًا، لأنّ موقع المُعارضة يُتيح ​إطلاق النار​ السياسي والإعلامي والمَعنوي ضُدّ قوى السُلطة، بسبب تفاقم الأزمات وعجز السُلطة الحاكمة عن مُعالجتها، علمًا أنّ الفترة الفاصلة عن موعد الإنتخابات غير كافية لتحقيق إنجازات تُذكر – حتى إذا سلّمنا جدلاً أنّ الحُكومة وُلدت، وأنّها لقيت دعمًا ماديًا سريعًا من الخارج.

إنطلاقًا ممّا سبق، يُمكن القول إنّه لو كانت الحُكومة إنقاذيّة إصلاحيّة – كما يتمنّى ​الشعب اللبناني​، لكانت تشكّلت قبل أشهر طويلة، ولكانت الخلافات تمحورت حول الخُطط الإنقاذيّة الواجب إعتمادها، وحول أكثر الشخصيّات كفاءة لمُعالجة الأزمة، لكن كون الحُكومة تُخفي طابعها السياسي – الإنتخابي تحت "عباءة الإختصاص" – إذا جاز التعبير، فإنّ الخلافات تتركّز على بعض الوزارات الحسّاسة، وعلى التوازنات حول طاولة ​مجلس الوزراء​، وبالتالي فرصة الفشل في تأليفها واردة جدًا، لأنّ لكلّ فريق حساباته السياسيّة والإنتخابيّة الدقيقة التي لن يُفرّط بها، حفاظًا على موقعه وخدمة لمصالحه المُستقبليّة. لكن في حال الفشل مُجدّدًا في تشكيل حُكومة، في ظلّ الأوضاع المأساويّة القائمة، فإنّ النتائج ستكون مُدمّرة على الجميع، وليس على فريق دون سواه. والتهويل بدأ من اليوم، بأنّ الإنهيار سيتفاقم بسرعة جُنونيّة في حال تعذّر تشكيل حُكومة خلال الأيّام والأسابيع المُقبلة. والغريب أنّ بعض القوى السياسيّة لا تزال حتى تاريخه تتجاهل الوقع المَعنوي السلبي الذي سيرتدّ عليها قبل سواها، في حال الفشل في حلّ ملفّ الحُكومة العالق منذ إستقالة حُكومة تصريف الأعمال برئاسة حسّان دياب قبل نحو سنة، كون شرائح واسعة من مُتحزّبي ومُناصري ومُؤيّدي مُختلف الأفرقاء السياسيّين، صارت بوضع لا تُحسد عليه معيشيًا، ونقمتها تتفاقم بوجه الجميع. وحتى الفئة المُرتاحة ماديًا من هؤلاء، تعيش حالًا من الإشمئزاز الكبير من الأوضاع القائمة. وبالتالي، تُوجد مصلحة لمُختلف القوى السياسيّة بالشروع فورًا في وقف الإنهيار، ووضع خارطة طريق لبدء المُعالجات. والإكتفاء بلوم الآخرين على ما حصل، من دون تأمين الأجواء المُناسبة لفتح الطريق أمام المُعالجات والحُلول، لن يُصرف بشكل جيّد في صناديق الإقتراع.

في الختام، صحيح أنّ النجاح في تشكيل حُكومة جديدة على يد الوُجوه التقليديّة نفسها لن يُحوّل لبنان إلى جنّة، لكنّ الأكيد أنّ الفشل مُجدّدًا في تأليف حُكومة سيصل بنا إلى جهنّم على الصُعد الإقتصاديّة والماليّة والحياتيّة والمَعيشيّة. فهل سيعترف السياسيّون بهذا الأمر، فيعملون سريعًا على تجنّب السُقوط التام قبل فوات الأوان، أم أنّ سياسة المُناكفات والمُزايدات والشرذمة والكراهيّة ستبقى هي السائدة؟!