ردًّا على هجمات 11 أيلول 2001 الغنيّة عن التعريف، إجتاحت الولايات المُتحدة الأميركيّة ​أفغانستان​ ومن ثمّ ​العراق​، وتردّد في حينه أنّ الهدف الإستراتيجي من وراء ذلك كان مُحاصرة إيران من أكثر من جهة، عبر إقامة دُول مُوالية لواشنطن على حُدود طهران. لكنّ ما حصل خلال العقدين الماضيين أظهر العكس تمامًا، وصبّت خُطوات ​أميركا​ العسكريّة في صالح إيران! واليوم، مع سُقوط الحُكم المُوالي لأميركا في أفغانستان بسرعة قياسية، بمُوازاة إنسحاب القُوّات الأميركيّة، يفرض سؤال إستراتيجي نفسه: هل ستُهدّد "​طالبان​" أمن إيران في المُستقبل؟.

بداية، لا بُدّ من التذكير أنّه في العراق، إستغلّت إيران قضاء القُوّات الدَوليّة بقيادة واشنطن على خصمها اللدود الرئيس العراقي صدّام حسين الذي كان قدسبّب لها الكثير من المتاعب، لفرض نُفوذها في العراق، وذلك عبر الميليشيات الشيعيّة التي موّلتها وسلّحتها ودرّبتها(1)، في الوقت الذي كانت فيه الجماعات السنّية المُسلّحة مُتفرّغة لإستهداف القوّات الأميركيّة. ومع إنسحاب القوّات الأميركيّة من العراق، تركت نظامًا ضعيفًا وهشًّا يميل سياسيًا بوضوح لصالح إيران التي نجحت في إستغلال الإنقسامات الطائفيّة لصالحها، وفي توظيف العداء المُزمن ضُدّ واشنطن، لطرد الأميركيّين من العراق. واليوم، ومع تنفيذ قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الإنسحاب من أفغانستان، إنهار النظام المُوالي لواشنطن، وتقهقر معه الجيش الأفغاني الذي تكبّدت الولايات المُتحدة الأميركيّة عشرات مليارات الدولارات لتدريبه وتسليحه، وعادت طالبان لتُسيطر على أفغانستان، مع ما يعنيه هذا الأمر من تحوّل ميداني إستراتيجي يفتح الباب على كل الإحتمالات، للمرّة الأولى منذ عقدين.

بحسب الكثير من المُحلّلين، إنّ الولايات المُتحدة الأميركيّة تدفع حاليًا ثمنًا باهظًا لسياساتها الإستراتيجيّة الفاشلة، حيث سقط رهانها كليًا على إقامة أنظمة مُوالية لها في كلّ من العراق وأفغانستان، وبالتالي على مُحاصرة إيران. وستكون واشنطن مُضطرّة في القريب العاجل للإقرار بهذه الهزيمة عبر توقيع إتفاق جديد مع النظام الإيراني يكون مُشابهًا للإتفاق النووي الذي كان قد صبّ في مصلحة طهران في نهاية المطاف، قبل أن يُلغيه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ليعود الرئيس الجديد جو بايدن ويُفاوض على إعادة تحريكه – ولوّ بصيغة مُعدّلة. وبحسب المُحلّلين أنفسهم، إنّ واشنطن تدفع حاليًا في أفغانستان ثمن سوء تقديرها للتوازنات الطائفيّة والصراعات العقائديّة بين الجماعات الدينيّة المُختلفة.

لكن في المُقابل، تُوجد مجموعة أخرى من المُحلّلين تنظر إلى التطوّرات في كلّ من العراق وأفغانستان، من زاوية أخرى. وهذه المجموعة تعتبر أنّ إيران التي كانت علاقتها مع حركة "طالبان" قد تحسّنت خلال ولاية الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجّاد، تحت عنوان مُقاومة النُفوذ الغربي في أفغانستان وإخراج القوّات المُحتلّة من المنطقة، ستجد نفسها مُضطرّة في المُستقبل لمواجهة "طالبان"، بعد إنتفاء المَصلحة المُشتركة التي كانت تجمع بينهما. والأسباب المُحتملة للإختلاف مُستقبلاً، مُتعدّدة وأبرزها:

أوّلاً: العداء الإيديولوجي والعرقي والديني المُزمن بين الطرفين، مع ما يعنيه هذا الأمر من صراع نُقوذ إقليمي.

ثانيًا: الإستغلال الإيراني للأفغان الشيعة في حروب إيران العابرة للحُدود، في مُقابل تشدّد "طالبان" في تعاملها مع الأقليّات الشيعيّة والفارسيّة في أفغانستان، مع ما يعنيه هذا التناقض من توتّرات مُرتقبة.

ثالثًا: إنتشار وحدات عسكريّة من "طالبان" على الحدود مع إيران، مع ما يعنيه هذا الأمر من إحتمال تسرّب جماعات سنيّة مُتشدّدة إلى الداخل الإيراني لإثارة المشاكل، إلخ.

رابعًا: سعي حركة "طالبان" لكسب ود دُول إقليميّة إسلاميّة عدّة، مثل قطر وباكستان وغيرهما، للخروج من عزلتها الدَوليّة، وهو ما تخشى إيران من أنّ يُحوّل أفغانستان إلى بيئة مُعادية لها، تُنفّذ أجندات إقليميّة مُتشدّدة تتناقض مع مصالحها.

وبحسب هذه الفئة من المُحلّلين الذين لا يعتبرون أنّ التطوّرات الميدانيّة في كلّ من العراق وأفغانستان تصبّ في مصلحة إيران، إنّ إبتعاد الولايات المُتحدة الأميركيّة عسكريًا عن المنطقة، سيُعيد إحياء تنظيم "داعش"، وجماعات إرهابيّة مُتطرّفة شبيهة به، في العراق وفي غيره من دول المنطقة، الأمر الذي سيجعل مصالح إيران، عرضة للإستهداف، من مُنطلقات مذهبيّة وعقائديّة، بينما ستكون المصالح الغربيّة عرضة للإستهداف أيضًا، لكن من مُنطلقات سياسيّة ومُرتبطة بالنُفوذ. وهذه المرّة، لن تُسارع واشنطن لحشد قوّاتها والقوّات الحليفة لمُقاتلة هذه الجماعات الإرهابيّة، بل ستتركها على هواها، علّها تدخل قريبًا في صراع مع خُصومها الإقليميّين والدَوليّين، من إيران مُرورًا بروسيا وُصولاً إلى الصين(2)!.

في الخُلاصة، إنّ الصُورة لا تزال غير واضحة بالنسبة إلى مُستقبل الوضع في العراق وأفغانستان والدول المُحيطة بهما، في ظلّ تداخل المصالح المُتعدّدة والمُتناقضة، وفي ظلّ الإنقسامات السياسيّة والطائفيّة والعرقيّة والعقائديّة، إلخ. ومن الضروري الإنتظار لبضعة أسابيع أو حتّى أشهر، لمعرفة إتجاه الأمور، علمًا أنّ الأكيد أنّ المنطقة بعيدة عن الإستقرار وعن الرخاء، حيث أنّ الوضع في كلّ من أفغانستان والعراق، مَفتوح على العديد من الإحتمالات السيّئة، من الإنفجارات والصراعات الأمنيّة الأهليّة المحليّة، إلى تصدير الإرهاب عبر الحُدود، لإيران وللعديد من دُول العالم الأخرى!.

(1) قوّات "الحشد الشعبي" التي بلغ عديدها أكثر من 130 ألف مُقاتل.

(2) روسيا تخشى التعرّض لمصالحها ولمصالح حلفائها العلمانيّين في آسيا الوسطى، بينما تخشى الصين أن تدعم "طالبان" أقليّة الإيغور المُسلمة في إقليم شينجيانغ المُجاور لأفغانستان، علمًا أنّ إيران تخشى بدورها أنّ تُقدّم "طالبان" يد العون للأقليّة السنيّة المُعارضة داخل إيران وفي العراق.