تُكثر إدارة الرئيس الاميركي جو بايدن من إشاراتها ورسائلها بأنّ الوقت قد حان لإنجاز مفاوضات النووي مع ايران. وفي الرسائل، ما هو ديبلوماسي وسياسي وحتى أمني.

فالواقع لم يعد يسمح للرئيس الاميركي بترف هدر الوقت. ففي الداخل صراع يتفاقم ويزداد صعوبة، مع سعي الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب للعودة الى المنافسة على الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومركّزاً خطابه على ضعف بايدن.

وعلى المستوى الدولي، بدت الصين وكأنّها تعمل على الإمساك بزمام المبادرة بوجه الاميركيين، خصوصاً بعد الكشف عن صفقة الغواصات النووية بين الولايات المتحدة الاميركية واستراليا، فكان التحرّك الصيني الجوي باتجاه تايوان، أحد أبرز حلفاء واشنطن في صراعها مع الصين.

كل ذلك يدفع بإدارة بايدن أولاً الى استعادة مظهر القوة أمام الشارع الاميركي، الذي تراجع تأييده ورضاه تجاه الإدارة الديموقراطية. وثانياً لتحشيد ما أمكن من الموارد الاميركية للتفرّغ للملف الصيني.

وهذا ما يستوجب الإسراع في إنجاز المفاوضات حول الملف النووي مع إيران. وقد تكون ايران، والتي تبرع في استنفاد عامل الوقت وعصره حتى آخر قطرة، قد شعرت بنفاد صبر إدارة بايدن، فأعلن وزير الخارجية حسين امير عبد اللهيان من موسكو، أولى محطاته في جولته الخارجية، بالعودة قريباً الى طاولة المفاوضات في فيينا. وتشير التوقعات الى انّ هذه المفاوضات ستُعقد من جديد نهاية هذا الشهر او مطلع الشهر المقبل.

وقبل اسابيع معدودة كان عبد اللهيان قد طالب واشنطن بتنازلات اميركية لاستئناف المفاوضات، كمثل الإفراج عن أرصدة مجمّدة. لكن الموقف الإيراني الجديد جاء بعد لقاء عبد اللهيان مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وسط أجواء تشير الى عدم رغبة او ربما عدم قدرة ادارة بايدن بتقديم جوائز مسبقة لطهران.

ويوم الاربعاء، سيُعقد لقاء ثلاثي هو الاول من نوعه على المستوى الرسمي، تشارك فيه دولة خليجية. الاجتماع سيحصل في وزارة الخارجية الاميركية بمشاركة وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن ووزيري خارجية اسرائيل والامارات. لا شك أنّ الملف الايراني سيكون حاضراً بقوة في هذا اللقاء. فعام 2009 كان قد حصل لقاء سري مماثل، ولكن على مستوى السفيرين الاسرائيلي والإماراتي، مع المسؤول عن الملف الايراني في الخارجية الاميركية يومها دينيس روس، وكانت ايران هي الطبق الرئيسي.

تجدر الاشارة ايضاً الى المشاكل الداخلية التي بدأت تحاصر رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت، ما ادّى الى تراجع نسبة مؤيّديه، وهو الذي يترأس ائتلافاً هشاً.

وسط كل هذه الأجواء وخلال وجود عبد اللهيان في موسكو، تقدّم الجيش الروسي باتجاه جنوب سوريا، وأقام نقطة عسكرية في منطقة قريبة من الحدود مع الاردن. المعنى بات واضحاً، روسيا هي المسؤولة عن أمن جنوب سوريا، وهي ستنفّذ ما التزمت به حول نفوذ إيران.

وخلال وجود عبد اللهيان في لبنان، وقبل مغادرته الى محطته الثالثة أي دمشق، نفّذت اسرائيل غارات جوية على مطار تيغور العسكري في محافظة حمص. الرسالة كانت معبّرة.

وفي توقيت مشابه للإعلان عن الغاز المستقدم من مصر الى لبنان، بعد الإعلان عن بواخر المازوت الإيرانية، ستزور مساعدة وزير الخارجية الاميركية فيكتوريا نولاند لبنان، بعد ايام على زيارة وزير الخارجية الإيرانية. نولاند ستتطرق خلال زيارتها من دون شك الى الإصلاحات الملحّة المطلوبة من الحكومة اللبنانية، كمدخل إلزامي لفتح ابواب المساعدات الاقتصادية المالية الملحّة للبنان. لكن الملف الاساسي يبقى موضوع الترسيم البحري والتعقيدات الحدودية. فالمرحلة هي مرحلة رسم مساحات النفوذ والخارطة السياسية الجديدة في هذه المرحلة الانتقالية في الشرق الاوسط.

وخلال الايام الماضية، كشفت الصحافة الاسرائيلية، أنّ الغاز الذي ستزود به مصر لبنان هو غاز ستشتريه من اسرائيل، وهذا الغاز ستستفيد منه مصر والاردن وكذلك لبنان. هذا المشروع الذي تولّت تسويقه الولايات المتحدة الاميركية سيسمح لإسرائيل بالتحكّم لاحقاً بمصادر الطاقة لمصر والاردن ولبنان، وفق ما شرحت وسائل الاعلام الاسرائيلية. وفي الوقت نفسه سمح هذا الخط بالانفتاح والتواصل مع النظام السوري، وما منحه بعضاً من الشرعية الخارجية. وهو ما يعني بوضوح، انّ المعالجات الاقتصادية ستترافق مع أثمان سياسية ولو بشكل غير مباشر.

في المقابل، فإنّ العجز الداخلي اللبناني المرتكز على الفساد والمصالح الذاتية، يساهم في دفع الامور في الاتجاهات المرسومة لها.

فعلى الرغم من الدعم الفرنسي المستمر للرئيس نجيب ميقاتي، إلّا أنّه وبعد اكثر من شهر على ولادة الحكومة، لم تظهر اي نتيجة ملموسة لحكومة من المفترض ان تكون حكومة طوارئ. لا بل على العكس، وبدل ان تبدأ معالجة ملف الكهرباء، فإنّ هذا الإنتاج تدنى الى مستوى الصفر. وهو ما ادّى الى تراجع الثقة اكثر فأكثر، وتُرجم ذلك بعودة الارتفاع لسعر صرف العملات الاجنبية. والسؤال البديهي هو: هل يُعقل التعاطي مع ملف الكهرباء الداهم بهذه الخفة؟

ولم يعد خافياً على احد، انّ الحكومة اللبنانية أرسلت موفدين لها لجسّ نبض الدول الخليجية، لكن الاجوبة جاءت محبطة للغاية. لم يلحظ أي من هؤلاء الموفدين ضوءاً اخضر. سمعوا الكثير من الكلام المعسول، لكن المساعدات لن تأتي، اولاً لأنّ الموقف السعودي لا يزال متشدّداً، وثانياً لأنّ التركيبة اللبنانية لا تزال هي هي، وهو ما انعكس على طريقة تشكيل الحكومة. فلقد كان مسيئاً جداً إقرار مبدأ المحاصصة على طريقة تركيبة الحكومة، وهو ما جعل النظرة الى هذه الحكومة بأنّها ستكون حكومة عاجزة.

على سبيل المثال، قيل إنّ جلسة يوم غد الثلاثاء تضمنت طلباً من كل وزير بأن يقدّم رؤيته حول ما يجب ان تفعله الحكومة. وبالتالي، هل يُعقل بعد مرور حوالى الشهر على ولادة هذه الحكومة، وسط هذه الانهيارات الحاصلة، ان تكون جلسة الحكومة مخصّصة لمناقشة الآراء؟

ربما لأجل ذلك تركّز العواصم الخارجية على موعد استحقاق الانتخابات النيابية. وقد تكون هذه العواصم ترى أن لا إمكانية لأي نهوض قبل إجراء الانتخابات النيابية وتبيان حجم المتغيّرات التي يمكن ان تطرأ على مشهد الطبقة السياسية الحالية. او بمعنى أوضح، إعادة تبيان الوان النفوذ داخل السلطة التشريعية او البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني، بعد أن كانت ايران قد أعلنت على ألسنة مسؤولين عدة فيها حيازتها الأكثرية النيابية بعد صدور نتائج انتخابات العام 2018. أضف الى ذلك وجود رئيس جمهورية حليف لها وأمّنت وصوله الى قصر بعبدا.

من الواضح انّ هنالك من يريد انتزاع الأغلبية النيابية من النفوذ الايراني، على ان تلي ذلك تفاهمات وضمانات حول النظام السياسي، ستسبق حتماً الانتخابات الرئاسية.

هذه التفاهمات لن تصل بالتأكيد الى حدود الذهاب الى مؤتمر تأسيسي وتعديلات دستورية واسعة، لكنها ستطال آلية عمل مجلس الوزراء وألوان الحقائب الأمنية خصوصاً، وربما استحداث حقائب جديدة من خلال تجزئة حقائب أساسية كبيرة كمثل حقيبة الداخلية