لوحةُ الرَّسامِ الفَرنسيّ Carle Vernet (1758-1836) الرَّائعةُ، والتي نُشاهِدُ فيها القائِدَ الرُّومانيّ Aemilius Paulus (القرن الثّاني قبل الميلاد)، يَدخُلُ مَدينةَ روما مُنتَصِرًا، تَجعلُنا نَتأمَّلُ بِما تُمَثِّلُهُ هذهِ اللَّوحَةُ مِن احتِفالٍ مَهيب.

قائدٌ عَسكريٌّ بِلباسِهِ المُمَيَّزِ، يَجلِسُ على عَرشٍ في عَرَبَةٍ ذَهَبِيَّةِ اللونِ، تَجرُّها فرَسٌ بَيضاء، ويَتقدَّمُهُ الجُنودُ الرَّومانِيّونَ بِلِباسِهم وعِتادِهِم والرِّيش الأحمر، والرَّاياتُ الّتي تَحمِلُ النَّسرَ الرُّومانيّ ترفرِفُ مِن حَولِهِ في كُلِّ مَكان، وفِرقَةٌ مِنَ الجُنودِ تَسيرُ خَلفَهُ لا تَقِلُّ زِينةً عَنِ الأمَامِيَّة. كُلُّ ذَلِكَ وَسطَ مَظاهِرِ الفَرحِ والابتِهَاج.

هذه اللوحة لِرَوعَةِ جَمالِها، تَجعَلُنا نَشعُرُ كَأنَّنا مَوجُودونَ في قَلبِ الحَدَث، حيثُ تَعلُو هُتافاتُ النَّاسِ ونَفيرُ المَزامِيرِ استِقبالًا لِهذا القَائِدِ الكَبيرِ الّذي انتَصَرَ على المَقدُونِيّينَ في مَعرَكَةِ Pydna الشَّهيرَةِ عام ١٦٨م بعدَ مُواجَهَةٍ ضَروسٍ مَعهم.

وَتَكريمًا لَه، مَنَحَهُ المَجلِسُ الرُّومانيُّ لَقَبَ Macedonicus، لِكَونِهِ أَسَرَ مَلِكَهم وأَولادَهُ واضِعًا حَدًّا لِسُلالَةِ Antigonide الهلينيَّةِ المُتَحَدِّرَةِ مِنَ الإسكَندَرِ الكَبير، ومُنهِيًا ما عُرِفَ بِالحربِ المَقدُونيَّةِ الثَّالِثة.

ولَكِن، وَسطَ هذا الاحتِفالِ الكَبيرِ تَفصِيلٌ جَوهَريٌّ في اللَّوحَةِ، يُدخِلُنا إلى بُعدٍ آخرَ لا بُدَّ مِنَ التوقُّفِ عِندَهُ لأهَميَّتِهِ المِفصَلِيَّة. فهُناكَ مَلاكٌ ذَهبيٌّ خلفَ المُنتَصِرِ يَحمِلُ بِكِلتا يَدَيهِ إكليلًا ذَهَبيًّا لِيُتَوِّجَ بهِ القائِدَ الظَّافِرَ، وحركَتُهُ تُظهِرُ كأنَّهُ وَصَلَ لِتَوِّهِ مِنَ السَّماء. أمَّا النُّقطَةُ الجَوهَرِيَّةُ فَتَكمُنُ في ما يَقُولُهُ المَلاكُ لـ Aemilius Paulus.

يقول: نعم!. ففي التَّقليدِ الرُّومانيّ، يَهمِسُ المَلاكُ في أُذُنِ المُحتَفى بِهِ "Memento Mori"، وهي كَلِماتٌ لاتينِيَّةٌ تَعني "Souviens-toi de la mort"، أي "تذَكَّرْ أَنَّكَ سَتموت".

فَلنتَخَيَّلْ لِلَحظَةٍ كيفَ سَيكونُ وَقعُ هذهِ العِبارَةِ على شَخصٍ في نَشوَةِ النَّصر! يَنظُرُ إلى الهاتِفِين لهُ مِن مكان مرتفع، وفَجأةً، وَسطَ أصواتِ الاحتِفالِ، يَعبُرُ إلى مَسمَعِهِ صَوتٌ كأنَّهُ من خارِجِ هذه الأرض، ويَقولُ له، بِالرُّغمِ مِن كُلِّ ما تَراهُ مِن تَعظيمٍ لَكَ ومَجدٍ، أَنتَ سَتَمُوت!.

ما سِرُّ هذا التَّقليدِ، وما هُوَ مَصدَرُه؟.

هو قَولٌ يَنبَثِقُ مِن مَقولَةٍ للإمبراطورِ Marcus Aurelius (١٢١-١٨٠) الرُّومانيّ الرِّواقيّ (Stoïcien)، لَخَّصَ فيها فَلسفَةَ الرِّواقِيّينَ: "أمامَ كُلِّ ما تَفعَلُهُ، ضَعْ نُصبَ عَينَيكَ، أنَّكَ إنسانٌ سَيَمُوت". وللمُلاحَظَةِ، يُعتَبَرُ Marcus مِنَ الأباطِرَةِ الرُّومان الخَمسةِ الصَّالِحِين.

لا بُدَّ هنا مِنَ الرُّجوعِ إلى القِدّيسِ يوستينوس الشَّهيدِ (١٠٠-١٦٥م)، والّذي كانَ فيلسوفًا قبلَ اهتِدائِهِ إلى المَسيحيَّةِ، وقد تَكلَّمَ على وُجودِ بِذارٍ إلهيَّةٍ في كُلِّ إنسان، ما يَجعَلُهُ في بَحثٍ مُستَمِرٍّ عن خالِقِهِ الجَميل.

واللّاهوتُ المَسيحيُّ يَقولُ إنَّ كُلَّ الجَمالاتِ في فَلسفَةِ الحَضاراتِ والشُّعوبِ، تَكتَمِلُ بِالإلهِ الّذي صارَ إنسَانًا، وهو الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح.

فلا عَجَبَ إذًا، أن نَقرأَ أقوالًا رائِعَةً لِلعديدِ مِنَ الفَلاسِفَةِ القُدَماءِ، وفيها الكَثيرُ مِنَ الجَمالِ الإلهيّ. واللافِتُ في هذا الأمرِ، أنَّ الفَلاسِفَةَ الّذين كانوا مُلحِدِينَ، ولكن عِندمَا اكتَشفُوا الرَّبَّ، عَبَّرُوا بِأجملِ التَّعابيرِ عن أنَّ مَن كانُوا يَبحثُونَ عَنهُ هُوَ المَسيحُ، وهُوَ الوَحيدُ الّذي مَلأَ قُلوبَهُم فَرَحًا وطُمأنِينَة.

بِالعَودَةِ إلى عِبارَةِ "تَذَكَّر أنَّكَ سَتمُوت"، يَجِبُ ألا نُفَسِّرَها بِطَريقَةٍ سَلبيَّةٍ أو يائِسة، على العَكسِ تَمَامًا، إذ المَقصُودُ منها تِجَنُّبُ الوُقوعِ في التَّكبُّرِ والتَّسلُّطِ، لأنَّ سِنينَ الإنسانِ مَحدُودَةٌ مَهما طالَت.

هذا تمامًا ما قَصَدَهُ الرِّواقِيّونَ الّذينَ أَخذوا تَسميتَهم مِنَ الأروِقَةِ المَرسُومَةِ والمُزَخرَفَةِ، الّتي كانُوا يَجتَمِعُونَ فيها ويَتناقَشون، ويُشهَدُ لهم رَفضُهم أن يُدعَوا "Zenonism"، على اسمِ مُؤَسِّسِهم Zénon de Kition[1]، كي لا تُصبِحَ فلسفتُهم "عِبادَةَ شَخص". فكم مِن عِبادَةٍ تتحَوَّلُ إلى عِبادَةِ أشخَاصٍ، فتُصبِحُ بِالتَّالِي صَنَمِيَّةً؟

بِالمُقابِلِ، يَجِدُ كُلُّ مَن يَقرأُ الأَدَبَ النُّسكيَّ المَسيحيّ، منذُ نشأتِهِ، يَجِدُ كلامًا عَميقًا في ما يَخُصُّ التَّأمُّلَ في المَوتِ، والتَّحذِيرَ مِنَ الكِبرياءِ، واكتِسابَ الوَداعَةِ. وأَهميَّةُ هذا الأدَبِ أنَّه يَرِدُ في إطارٍ قِياميٍّ مَلَكُوتِيٍّ أبَدِيّ مَعَ الرَّبِّ القائِمِ مِن بَينِ الأموات. وهُنا يَكتَمِلُ الجَمال.

فَبِمُقابِلِ مَوكَبِ النَّصرِ الرُّومانيّ الدَّاخِلِ إلى رُوما الأرضِيَّة، مَوكَبُ انتِصارٍ آخرَ داخِلٌ إلى "أُورَشَليمَ السَّماوِيَّة"، ويَكونُ تَذكارُهُ السَّنويّ في الواحِدِ والعِشرينَ مِن شَهرِ تِشرينَ الثَّاني مِن كُلِّ عام، وهُوَ دُخولُ والِدَةِ الإلهِ إلى الهَيكَل.

​​​​​​​يَكتُبُ القِدّيسُ بُطرُسُ الصَّانِعُ العَجائبَ Le Thaumaturge (٨٥٠-٩٢٢م)، أُسقفُ مَدينَةِ أرغوس Argos اليونانِيَّةِ، والّتي تَقومُ فيها كَنيسَةٌ على اسمِهِ، بَناها أُسقُفُ المَدينَةِ في القَرنِ التَّاسِعَ عَشَر، وتَمَّ نَقلُ رُفاتِ القِدّيسِ بُطرُسَ إليها في العام ٢٠٠٨م، بَعدَ أن كانَت مَوجُودَةً في دَيرٍ لاتينيّ في رُوما.

يَكتُبُ: "تَعالَينَ أيَّتها العَذارى القِدِّيساتُ، خَلفَ المَلِكَةِ، مِثلَ الخَدَمِ المُخلِصِينَ، حَامِلينَ نُورًا مُزدَوجًا، ظاهِرًا مِنَ المَشاعِلِ، ورُوحِيًّا مِن عُذرِيَّتِكُنَّ، مُرَنِّمينَ المَزمورَ [٢٥:٦٨] بأناقَةٍ، ولتَهْتَزَّ أجسادُكُنَّ مِثلَ الدُّفِّ مِن حِبالِكُنَّ الصَّوتِيَّة. فالنَّبيُّ العَظيمُ داودُ المَلِكُ دَعاكُنَّ "مِنْ الأمامِ الْمُغَنُّونَ. ومِنَ الوَرَاءِ ضَارِبُو الأَوْتَارِ. وفِي الْوَسَطِ فَتَيَاتٌ ضَارِبَاتُ الدُّفُوفِ".

في المَوكَبِ الرُّومانِيّ انتصارٌ واحتِفالٌ، ولكنَّه يبقى أنيًّا ومحدودًا في الزَّمَنِ مَهمَا عَظُمَ. بَينَمَا مَعَ العَذراءِ مَريَمَ، نُشاهِدُ مَوكَبًا يَعبُرُ مِنَ الزَّمَنِ الحاضِرِ إلى اللازَمَن، لأنَّ الّتي تَدخُلُ سَتكونُ وَالِدَةَ الإلهِ، مَن حَوَتِ الّذي لا يَسعُهُ مَكانٌ ولا يَحُدُّهُ زَمان، وخَلاصُهُ أبَدِيٌّ إلى دَهرِ الدَّاهِرين.

وَكأنَّنا، هُنا أيضًا، نُشاهِدُ في المَوكَبِ الأوَّلِ الفَيلسوفَ اليُونانيّ Héraclite d'Éphèse (٥٤٤-٤٨٠ قبل الميلاد تقريبًا)، يَجلِسُ مُتَّكِئًا كَما رَسَمَهُ Raphaël، في لَوحَةِ مَدرَسَةِ أثينا L'École d'Athènes ، مُدَوِّنًا عِبارَتَهُ الشَّهيرَةَ "كُلُّ شَيءٍ يَجري" مِثلَ مِياهِ النَّهر. وهذه العِبارَةُ عميقةٌ جدًّا، لأنَّ معناها مُغايِرٌ تمامًا لِفِعلِ المُكوثِ والسُّكنى Demeurer.

بينَما في المَوكَبِ الثَّاني سكنىً ثالوثِيٌّ: العَذراءُ تَسكُنُ في الهَيكَلِ، في قُدسِ الأقداسِ، حَيثُ يَسكُنُ الله. وعِندَمَا سَتكبُرُ وتَحبَلُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ سَيَسكُنُ اللهُ في أَحشائِها، وتَسكُنُ هيَ في مَولُودِها الإلَهِيِّ إلى الأبَد.

بِهذا يَتَحقَّقُ الانتِصارُ العَظيمَ الّذي شاءَهُ اللهُ لنا، والّذي لا يُغلَبُ، إن مَاثَلْنا العَذراءَ بِعِشقِها لله. وعِندَها فقَط لَن نَسمَعَ ما قالَهُ المَلاكُ لـ Aemilius Paulus "تذكّر الموت"، بل سيَهتِفُ لنا بِصَوتٍ عَظيمٍ لا بِالهَمسِ: "Memento Vitae" "تَذكَّرِ الحَياةَ [الأَبَدِيَّةَ]"، تَذكَّرْ أنَّكَ لَن تَموتَ لأنَّ يَسوعَ هُوَ الحَياةُ. إلى الرَّبِّ نَطلًب.

[1] Zénon de Kition (Citium) , né à Kition, Larnaca -Chypre, est un philosophe grec d'origine phénicienne, fondateur en 301 av. J.-C. du stoïcisme.​​​​​​​