لا يخفي غالبية اللبنانيين خيبتهم من واقع الوطن المرير. لقد تغيّر لبنان في العقود الاخيرة، على مختلف الصعد، والأخطر هو سقوط مفهوم الدولة الذي يقوم على احترام أسسها: الدستور، القوانين، توازن السلطات بين تنفيذية وتشريعية وقضائية، استمرارية المؤسسات، حسن سير الإدارة، حصرية المرجعية الأمنية والعسكرية في يد السلطة الشرعية، احترام الأملاك العامة... كل ذلك بات يبدو بعيداً. النتيجة الواضحة: الدولة تتفكّك.

هذه الدولة التي قامت في عهد ما يُسمّى بالمارونية السياسية سقطت كلياً، ولبنان يتخبّط اليوم في مسار يصعب التكهّن الى أين سيقوده. لقد بدأ سقوط الدولة منذ السبعينات، حين قامت سلطة «منظمة التحرير الفلسطينية» لتنافس السلطة اللبنانية. وقد تمّ ذلك بدعم شريحة من اللبنانيين لمنظمة التحرير، لاسيما الاحزاب اليسارية والقيادات السنّية المعارضة للنظام القائم، فأمّنت التغطية للوجود الفلسطيني المسلّح، وأدّى ذلك الى اندلاع حرب 1975 وتشرذم الجيش اللبناني وقيام خطوط التماس بين المناطق.

حاول اتفاق الطائف لملمة أجزاء الوطن وإعادة تكوين السلطة، هذه المرّة بوجه مسلم. غير انّ اغتيال رفيق الحريري ومجموعة كبرى من القيادات السيادية وحرب 2006 وصعود «حزب الله» السياسي والعسكري وصولاً الى «تفاهم مار مخايل» أسقطت مرة أخرى الدولة وقادت الوطن في الفوضى التي نشهدها اليوم، من دون أن يبدو حتى الآن أي طرح بديل لإعادة تركيب الوطن. لذا فالأنظار تتجّه اليوم نحو «حزب الله» بصفته الممسك بالسلطة الحقيقية: هل الحزب يرغب في الفوضى الحاصلة؟ هل هو شريك في الفساد القائم ام هو يغطّي فساد شركائه في السلطة؟ ما هو النظام السياسي الذي يسعى اليه؟ لماذا لا يحرص «حزب الله» على الحفاظ على المؤسسات وعلى مسيرة الدولة والمحافظة على دستورها وقوانينها وأملاكها، فالدولة هي لجميع اللبنانيين وليست حصراً للمسيحيين؟ وماذا ربح الحزب من تفكيك الدولة؟ وهل استفاد المسلمون من انهيارها؟

يشعر المسيحيون اليوم، وهذه حالهم وحدهم بين الطوائف، بأنّهم مضطهدون في الوطن الذي كانوا وراء قيامته. فكأنّهم أخطأوا في الرهان على قيام الدولة، ولطالما كانوا معادين لكل السلطات التي تعاقبت على المنطقة. راهنوا على صيغة التعايش، صيغة 1943 التي قادتها المارونية السياسية، والتي تختصر بلبنان لجميع أبنائه على تعدّد طوائفهم، في صيغة تعايش حضارية. اعتبرت القيادات المسيحية من جيل ميشال شيحا أنّهم يصنعون وطناً لجميع أبنائه.

غير انّ الدولة التي بنوها وآمنوا بها لم تقو على حمايتهم عام 1975، كما أنّها لا تبدو قادرة على حمايتهم اليوم. في الوقت نفسه يرون كيف أنّ القيادات المسلمة على تنوع مذاهبهم، يعملون على تقاسم مواقع المسيحيين في الدولة كأنّهم في عملية حصر إرث لهم. يتنازعون على وضع اليد على اراضي المسيحيين وكأنّهم يحققون كسباً، أو كأنّهم فرحون برؤية المسيحيين يهاجرون أو يبيعون ممتلكاتهم بدلاً من أن يسعوا الى طمأنتهم والمحافظة عليهم.

فمسيحيو لبنان لا انتماء لهم الّا لبنان. لا أفق لهم الّا الجبل. على عكس الطوائف الاخرى. هم كيانيون لأنّ لا خيار آخر لهم. هم قاتلوا دوماً للبقاء في أرضهم لأنّ البديل هو الهجرة. لكنهم حالياً يهاجرون. أرقام القيد الانتخابي تبيّن تراجعهم، هم ينطلقون الى بلدان العالم أجمع، ينخرطون فيها وينجحون في بناء مستقبل أفضل لهم. هم لن يعودوا من استراليا واميركا واوروبا. الحياة هناك تقدّم لهم ما لم يعد لبنان قادراً على أن يقدّمه لهم.

انّهم يهاجرون بسبب الضغوط المتعددة التي يعانون منها. أخوانهم المسلمون في الوطن لا ينكفؤون عن تربيحهم الجميل بأنّهم أوقفوا التعداد. وأنّه إذا عادوا اليه لا يبقى للمسيحي من موقع سياسي او اداري او مكان في السلطة. ماذا ستقدّم من إضافة للمسلمين بضعة مناصب نيابية إضافية ينتزعونها من المسيحيين؟

المسيحيون يرحلون ويتناقصون، فكيف سيكون لبنان من دونهم؟ أي نموذج يريده المسؤولون المسلمون لهذا الوطن؟ هل يريدون لبنان مسلماً؟ وفي هذه الحال هل سيعيشون إسلامهم أفضل؟ بماذا أعاق المسيحيون المسلمين في أن يعيشوا دينهم وينفتحوا على العالمين العربي والإسلامي ويحققوا طموحاتهم؟

هل الدولة اللبنانية التي كانت ذو وجه مسيحي منذ الاستقلال حتى 1975 أضرّت بحقوق المسلمين؟ انّ الدراسات الاجتماعية تؤكّد أنّ النظام اللبناني أتاح دوماً لجميع أبنائه التقدّم والارتقاء الاجتماعي، والحرمان لم يكن حكراً على طائفة، فالقرى المسيحية البعيدة عن المدن لا تقلّ فقراً وحرماناً عن القرى المسلمة التي رفعت لواء الحرمان وتغيير النظام.

المسيحيون يرحلون، لقد ملّوا وسئموا، أولاً من قيادات مسيحية لا همّ عندها الّا كراسيها، كما سئموا من قيادات مسلمة تسعى الى منازعتهم أرضهم وحقوقهم. سئموا من غياب الدولة بمفهومها الحضاري، فالحالية لا تستقوي الّا عليهم. فأي نظام سياسي يرتسم للبنان من خلال واقع اليوم؟ لقد تصحّرت الجبال، وأصبح البحر باطوناً في خدمة مافيات السياسة، والسهول الزراعية أكلها العمران، مشاعات الدولة تتحوّل الى أملاك خاصة. وجه لبنان المتعدد الثقافات والألوان بات من الماضي.

سقطت الدولة، سقط حكم القانون، سقطت المؤسسات، سقط مفهوم تداول السلطة، اهترأت الإدارة. فهل هذا هو مشروع إسقاط الوجه المسيحي للبنان؟ إذا استمر الوضع على ما هو عليه سيفرغ من المسيحيين، سيأخذون معهم إبداعهم الفكري والثقافي والفني، سيتحوّل لبنان الى لبنان اللون الواحد والفكر الواحد واللباس الموحّد، فماذا يجني المسلمون من ذلك؟

قالها البطرك صفير: «إذا خُيّرنا بين العيش المشترك والحرية نختار الحرّية». سيتبع المسيحيون الحرّية حيث تكون، في لبنان أو خارجه. القيادات المسلمة على تنوعها هي اليوم أمام تحدّ كبير وهو الحفاظ على الوجود المسيحي في لبنان شريكاً فاعلاً في صناعة الوطن.