على عكس البيان الذي كان صدر عن السعودية بلهجة قاسية تجاه لبنان في تشرين الثاني من العام الفائت، وتبعه شبه قطع للعلاقات الدبلوماسية مع لبنان وانضمت اليها دول اخرى (منها الكويت) حيث تم طرد السفراء اللبنانيين، فاجأت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الكويتي الشيخ احمد ناصر المحمد الصباح الى بيروت الكثيرين، فيما لم تحمل كلماته ومواقفه بعد لقاءاته ايّ تصعيد في اللهجة، لا بل كانت اشبه بكلمات تصلح لاجراء مفاوضات.

محطات كثيرة يمكن التوقف عندها مع هذه الزيارة، اولها التوقيت، بحيث اتى بعد وقت غير قصير من المبادرة الفرنسيّة التي خرق فيها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون المياه الراكدة بين لبنان والخليج وادّت الى استقالة وزير الاعلام في حينه جورج قرداحي، واجراء اتصال بين ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. ولكن الزيارة حصلت بعد ساعات قليلة على عودة النائب سعد الحريري من غياب طويل قضاه، ليس في السعودية، بل في الامارات، وتنامي الحديث عن عزوفه عن الترشح الى الانتخابات النيابية المرتقبة، وعشية الاعلان اللبناني عن مفاوضات ستجرى مع صندوق النقد الدولي للوصول الى قواسم مشتركة تضع حداً للانهيار المالي والاقتصادي.

ولكن الزيارة حملت بذاتها اكثر بكثير من عوامل التوقيت المهمّة بطبيعة الحال، فهي اتت اولاً لكسر الجليد الخليجي مع لبنان، اذ انه على الرغم من الموقف المفاجئ للكويت -الذي لم يعتده لبنان من قبل ووقوفها بهذا الشكل الى جانب قرار طرد السفير اللبناني بعد ان كان اميرها الراحل الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح امير المصالحات والمبادرات التي تقرّب وجهات النظر- ها هي الكويت تحديداً، تعود الى فتح البوابة نفسها بعد اغلاقها قسرياً، ولعبت دور الرسول الحامل للمبادرة التي من شأنها اعادة المياه الى مجاريها بين لبنان والخليج. ولكن ما لم يقله الوزير الكويتي بشكل مباشر، ضمّنه في تصاريحه، والتي قال فيها بوضوح ان الرسالة التي يحملها هي "كويتية-خليجية-عربية ودولية". هذه الجملة تحمل الكثير من الدلالات، اذ هي اشارة الى ان التحرك العربي والخليجي تحديداً لم يكن بمبادرة من هذه الدول، بل اتى بفعل تحرك دولي وعربي ادى الى هذا "المخرج". وفيما الجميع يطالب بالتغيير الداخلي في لبنان، اتى هذا التغيير من الخارج، وهذا امر مقلق للبنانيين. ففي المبدأ من الجيد حصول هذا التغيير الخارجي تجاه لبنان، ما فتح الباب امام اصلاح ما يمكن اصلاحه، ولكنه من جهة اخرى لا يطمئن على المدى الطويل، فهذا التغيير سيبقى مرتبطاً بشكل وثيق بعدة امور ومنها العلاقات الغربية مع الدول العربية والخليجية، والمفاوضات بين ايران وبين دول الغرب من جهة، وبينها وبين السعودية من جهة ثانية، وكل ذلك يعني ان لبنان غائب بشكل اساسي عن هذه الامور، ولا يعدو كونه ساحة "تصفية حسابات" كما كان في السابق. وهذا ان دل على شيء، فعلى ان التغير الداخلي المنشود والمنتظر (لدى قسم فقط من اللبنانيين)، بات اكثر من بعيد، وما حلّ محله بشكل مؤكد هو الاستمرار بسياسة التسويات و"الترقيع"، وهذا يعني بما لا يقبل الشك، ان الخارج بشقيه العربي والدولي، يتحدث في العلن ما لا يضمره في السر، وهو انه لا يبغي اي تغيير داخلي حقيقي، وسيكتفي فقط ببعض الشكليات الكفيلة بتبرير تصرفات الادارات المعنية امام شعوبها، فيما الوضع اللبناني سيبقى على حاله في العمق وما سيتغيّر هو القشور فقط.

انها الحقيقة المؤلمة التي يهرب البعض من ملاقاتها، ولكنها باقية وتفرض نفسها يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد من الزمن، ويبدو للاسف انها ستكون احدى العوامل الجديدة التي ستتجذر في الهوية اللبنانية.