من المُمكن تفهّم التباينات بين عدد من كبار المسؤولين الرسميّين وقيادة الجيش، بشأن ملفّ التعيينات في المجلس الأعلى للدفاع، بإعتبار أنّ مُحاولة السياسيّين فرض نُفوذهم في المراكز الأمنيّة الحسّاسة، هو صفة سلبيّة مُتوارثة في ​لبنان​، تُحاول القيادة الحاليّة التفلّت منها. ومن المُمكن إلى حدّ ما تفهّم عدم الإرتياح بين رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" النائب ​جبران باسيل​ وقائد الجيش ​العماد جوزاف عون​، بخلفيّة الحزازيّات الرئاسيّة، نتيجة طرح إسم أي قائد للجيش بشكل دائم لرئاسة الجُمهوريّة-ولوّ من خلف الكواليس ومن مُنطلق الخيارات المُمكنة. لكن ما كان لافتًا مطلع هذا الأسبوع هو تساؤل أمين عام "​حزب الله​" السيّد ​حسن نصر الله​ عمّا يفعله الضُبّاط الأميركيّون في اليرزة(1)، الأمر الذي فُسّرَ من قبل بعض المُحلّلين بأنّه رسالة أولى على طريق عزم "حزب الله" قطع طريق الرئاسة أمام قائد الجيش الحالي. فهل هذا الأمر صحيح، وهل يُمكن تنفيذه؟.

لا شكّ أنّ الجميع في إنتظار إتمام الإستحقاق الإنتخابي النيابي، قبل التفكير بخيارات الإستحقاق الإنتخابي الرئاسي، باعتبار أنّ من شأن توازنات المجلس النيابي المُقبل أن تؤثّر-ولوّ بنسبة مَحدودة، في الخيارات الرئاسيّة المُمكنة، إضافة طبعًا إلى المُعطيات الإقليميّة والدَوليّة التي ستكون قائمة عند حُلول موعد الإنتخابات الرئاسيّة في الخريف المُقبل. لكن تُوجد نظريّة أخرى تتحدّث عن أنّ قُدرات التعطيل المُتبادل بين المُرشّحين الرئاسيّين، ستقود في النهاية إلى خيار قائد الجيش، بإعتبار أنّ فرص رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​ بالوُصول إلى قصر بعبدا مَعدومة في ظلّ التوازنات السياسيّة الحاليّة في لبنان، وفرص رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" النائب جبران باسيل ضعيفة أيضًا بسبب "الفيتوات" المَرفوعة بوجهه من قبل العديد من الجهات الداخليّة. والمُفارقة اللافتة أنّ فرص وُصول رئيس "تيّار المردة" الوزير السابق سليمان فرنجيّة ستتأثّر سلبًا بحقّ النقض الذي سترفعه القوى المسيحيّة بوجهه، وفي طليعتها "التيّار" و"القوّات" وغيرهما. وبحسب أصحاب هذه النظريّة، من الصعب فرض شخصيّة مسيحيّة ضعيفة في منصب الرئاسة، بعد إستبعاد الشخصيّات السياسيّة المسيحيّة التقليديّة الأساسيّة كلّها، ما سيرفع تلقائيًا فرص وُصول قائد الجيش العماد جوزاف عون، كتسوية مُحتملة. وهذ التسوية كانت حتى الأمس القريب تُعتبر "أفضل المُمكن"، من قبل العديد من المُحلّلين، ما لم يرغب اللبنانيّون بالدُخول مُجدّدًا في فترة فراغ رئاسي لسنوات طويلة!.

لكن بعد كلام أمين عام "حزب الله" الأخير بشأن ما إعتبره نُفوذًا أميركيًا في اليرزة، إرتفعت التساؤلات ما إذا كان "الحزب" بدأ بتمهيد الطريق لإخراج إسم قائد الجيش من لائحة الخيارات المُحتملة في السباق الرئاسي، بحجّة أنّه أميركيّ الهوى. وبالتالي، في حال إتخذ "الحزب" موقفًا مُعارضًا حازمًا من العماد جوزاف عون، وتقاطع هذا الموقف مع مصالح القوى الحزبيّة المسيحيّة غير المُتحمّسة لهذا الخيار، وبعضها يُعارضه بشدّة بسبب طُموحات رئاسيّة شخصيّة تتملّكه، تتراجع حُظوظ قائد الجيش الرئاسيّة بشكل كبير عمليًا. تذكير أنّ حملات "حزب الله" غالبًا ما تكون مُؤثّرة، وهي تُصبح حاسمة النتائج إذا ما تقاطعت مع موقف مؤيّد من قبل "التيّار الوطني الحُرّ"، وهذا ما حصل عشيّة الإنتخابات الرئاسيّة الماضية، عندما لم تنته حال الفراغ الرئاسي إلا بعد التوافق على إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة. وبالتالي، لا شيء يمنع من تكرار هذا "السيناريو" مرّة جديدة عند حُلول موعد الإنتخابات الرئاسيّة المُقبلة.

إشارة إلى أنّ قائد الجيش يُواصل منذ تعيينه في منصبه، سياسة تُعطي الأولويّة للحفاظ على الأمن والإستقرار الداخلي، وعلى مُعالجة أيّ مُشكلة أمنيّة بشكل حيادي وموضوعي بدون أي إنحياز لأي طرف. وبالنسبة إلى التواصل مع الأميركيّين، فهو مبني على تأمين المُساعدات العينيّة للجيش، وعلى توفير العتاد والذخائر والتدريب، من دون الإرتباط بأي محاور أو تنفيذ أيّ أجندات خارجيّة. وعلاقات الجيش اللوجستيّة هذه، غير مَحصورة بالأميركيّين، بل تشمل أيضًا العديد من الدول الغربيّة، مثل فرنسا، وكندا، وإيطاليا، وغيرها. وحتى علاقة قيادة الجيش الحاليّة أخذت في الإعتبار-ولا تزال، حساسيّة واقع "حزب الله" الأمني داخل الأراضي اللبنانية، ولم تحصل أيّ مُشكلة تُعكّر صفو هذه العلاقة، حتى مثلاً عندما قام "الحزب" بإطلاق رشقة من الصواريخ من قرية شويّا، حيث تمّت إعادة الآليّة التي إستخدمت في القصف إلى "الحزب"، بعد مُصادرتها في إجراء شكلي قصير المدى.

في الخُلاصة، الوقت لا يزال باكرًا لتحديد هويّة الرئيس المُقبل، والأنظار الآن مُوجّهة إلى الإستحقاق الإنتخابي النيابي وما سينجُم عنه من نتائج، وعندها قد تُصبح الصُورة أوضح في ما خصّ الإستحقاق الرئاسي. لكن في حال بقيت سياسة التدمير المُمنهج لركائز الدولة اللبنانيّة قائمة، من إستهداف القضاء إلى القطاع المصرفي، ومن إستهداف الإقتصاد والتجارة الخارجيّة وُصولاً إلى السياحة ومصالح اللبنانيّين في دول الإغتراب، لا شيء يحول دون إستكمال هذه السياسة التدميريّة لتشمل الجيش والقوى الأمنيّة، بحجّة تأثّرها بالأميركيّين، وبذريعة منعها إستباقيًا من تنفيذ القرارات الدَوليّة التي يُطالب العالمين العربي والغربي بتطبيقها، من دون مزيد من التأخير، حتى يعود لبنان إلى سابق عهده المُزدهر والمُنفتح.

(1) قال في مُقابلة تلفزيونيّة إنّ للأميركيّين حُضورًا في المؤسّسة العسكريّة، وهناك ضُباك أميركيّون في اليرزة، والسفيرة الأميركيّية "لا تتعزّل من هناك ولازقة بالجيش"، ورأى أنّ "السفارة الأميركيّة هي أداة للإستخبارات المركزيّة، ومبنى السفارة الجديد هو مركز للتجسّس على دول عدّة في منطقة الشرق الأوسط".