تَقدَّمَ الضَابطُ الرُّومانيّ المُناوِبُ في أُورَشليمَ، على عَجَلٍ مِن قائِدِهِ، وبَعدَ إلقاءِ التَّحيَّةِ العَسكريّةِ، أبلَغَهُ خبرًا عاجِلًا: "سيّدي، المَدينةُ في هِياج، ثَمَّةَ شخص يُقالُ إنّه مَلِكُ اليَهودِ، يَدخُلُ المَدينةَ على جَحشٍ، والشَّعبُ يهتِفُ له أن يُخَلِّصَهم، ويَستقبِلُونَهُ بِسُعُفِ النَخيل، ويَطرَحون ثِيابَهَم أمامَه.

تَفاجأ القائِدُ الرّومانيُّ لِلوَهلَةِ الأُولى، فإنَّ ما يَسمَعُهُ مِنَ الضَّابِطِ أمرٌ غَريب: مَلِكٌ راكِبٌ على جَحشٍ؟

فأخذَ يتساءَلُ: هل سَبَق أن تَلقَّى رسالةً بِهذا الشّأنِ مِن ​روما​؟ ولماذا الاحتفالُ في أورَشليمَ وليسَ في رُوما؟ فالرّومان، حَسب تَقاليدِهم، كانُوا يُنَظِّمون احتفالاتِ النَّصرِ في عاصِمَةِ إمبراطُوريَّتِهم، وتَحديدًا لِقائِدٍ إنتَصَرَ في الحُروبِ، وبِناءً على تَعميمٍ مِن مجلس الشورى الروماني.

وكانَ الاحتفالُ الرُّومانيُّ يَبدأُ بِقُربِ بَوَّابَةِ النَّصرِ Porta Triumphalis، ثمَّ التَّوجُّه إلى مَعبَدِ Jupiter Capitolin، على إحدى تِلالِ روما السَّبع، بِحيثُ يَسيرُ في المُقَدّمَةِ نافخو الأبواق، تَليهم لَوحاتٌ مَرسومَةٌ أو مَنحوتاتٌ تُظهِرُ المِنطقةَ وقِلاعَها التي أَخضَعها المُحتَفَلُ بِهِ، وبَعدَها تُعرَضُ شارَاتُ المَلِكِ المَهزومِ وتيجانُهُ وحُلَلُهُ وكُنوزُه، بِالإضافَةِ إلى غَنائِمِ الحَربِ، فالأسرى.

وبعدَ الغَنائِمِ تَمُرُّ الأضحِيَةُ، وهي كِنايَةٌ عن ثِيران ذُهِّبت قُرونُها، وعُلِّقَت عليها شارَاتٌ وَثَنِيَّةٌ خاصَّةٌ بِطَقسِ تَقدِيمِ الأضحِية. وفي نِهايَةِ المَوكِبِ يَظهَرُ المُنتَصِرُ على عَرَبَةٍ احتِفالِيَّةٍ تَجُرُّها أَربَعَةُ أحصِنَةٍ، وحَولَهُ أولادُه (إن وُجِدوا) وبَعضٌ مِن أفرَادِ عائِلَتِه. ويُحيطُ بِالعَرَبَةِ، مُرافِقُوهُ وقَادَةُ فِرَقِ جَيشِهِ، وخَلفَهُ الجَيشُ المُنتَصِر.

يَرتَدِي هذا المُنتَصِرُ الرِّدَاءَ الرُّومانِيَّ الأُرجُوانِيَّ الكَبيرَ مُطرَّزًا بِالذَّهَبِ، ورِدَاءً آخَرَ تَحتَهُ مُزَيّنًا بِالذَّهَبِ والنَّخيل. وفي يَدِهِ صَولجانٌ عليهِ النَّسرُ الرُّومانيّ وغُصنُ غارٍ. شَاراتُ النَّصرِ هَذِهِ هي التي كانَت تُزَيِّنُ تِمثالَ جوبيتر Jupiter.

يَسلِكُ المَوكِبُ الطَّريقَ المُقَدَّسَ وَسطَ الشَّعبِ الذي يَستَقبلُ القائِدَ بِالهُتافَات، والرَّاياتِ الرُّومَانِيَّةِ الحَمراءِ اللون تَملأُ الطَّريق. وكانَت كُلُّ المَعابِدِ تُفتَحُ، وتُزَيَّنُ بِالغار، ويُشعَلُ البَخُورُ على مَذابِحِها.

وعِندَ سَفحِ مَبنى الـ Capitole، كان يَتِمُّ إخراجُ الأسرى مِنَ المَوكِبِ، بَعضُهم يُباعُ في سوقِ العبيدِ، والبعضُ الآخَرُ يَتِمُّ إعدامُه. وعِندَ الوُصولِ إلى مَعبَدِ جوبيتر، تُقدَّمُ الذَّبائحُ وتُقامُ المآدِب.

كُلُّ هذا مَرَّ سريعًا في ذِهنِ القائِدِ الرُّومانيّ، ولا بُدَّ أنَّه قَصَدَ المَكانَ لِيُشاهِدَ بِعَينِهِ ما يَجرِي.

يا لَلسُّخرية! قَالَ في نَفسِه. أيُّ نَوعٍ مِنَ المُلوكِ هذا الدَّاخِل؟ ما هِيَ قُوَّتُه لِكي يُخَلِّصَ الشَّعبَ اليَهُودِيّ؟ أينَ هُوَ جَيشُه؟ مَا هِيَ المَعارِكُ الّتي خاضَها وانتَصَرَ فِيها، وأَهلَكَ أكثرَ مِن خَمسَةِ آلافِ جُنديّ مِن الأعداء ليكونَ مُنتَصِرًا؟ مَا هِيَ الأرَاضي الّتي كَسِبَها لِصالِحِ الإمبرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّة؟

بِالإضَافَةِ إلى ذَلِكَ، فَيسوعُ لا يَبدُو عَليهِ أنَّهُ قائِدٌ عَسكَرِيّ، ولا يَلبَسُ الِلبَاسَ البَهِيّ، ولا يَحمِلُ بِيَدِهِ صولجانًا عليهِ نسرٌ، وما مِن إشاراتِ نَصر. أينَ هُوَ جيشُهُ؟ وأينَ هِيَ الغَنائِمُ؟ أينَ اللوحَاتُ التي تحَدِّدُ مناطِق انتِصاراتِه؟ أينَ الأبواقُ التي تتقدَّمُه؟

كُلُّ ذلك غَيرُ مَوجُود. فَقَط تَلامِيذُ يَسوعَ يَسيرونَ خَلفَه.

كانَ مِن عاداتِ الرُّومانِ أيضًا، أن ينتَظِرَ المُنتَصِرُ خارِجَ رُوما، حتَّى يَصدُرَ مَرسومُ المُوافَقَةِ على الاعتِرافِ بِنَصرِه. فمَنِ الّذي اعتَرَفَ به؟

الرُّومانُ مَعذُورون لأنَّهم وَثنيّونَ، والأكثَرُ لأن لَيسَ عِندَهُم نُبوءاتُ العَهدِ القَديمِ عنِ المَسيّا.

لقد غَفَلَ عنهم أنَّ مَنِ اعتَرَفَ بِهِ كُلُّ قَلبٍ طاهِر.

وأيضًا غَفَلَ عَنهُم أنَّهُم أَيضًا أبنَاؤه، وسيَشهَدُ لَهُ قائِدُ المائةِ الرُّومانيّ عَلى الصَّليبِ، ويُصبِحُ قِدِّيسًا، ويُستَشهَدُ مِن أَجلِه.

وأيضًا غَفَلَ عنهُم أنَّ انتِصاراتِهِ لا تُحصَى ولا تُعَدُّ، هُوَ مُفَجِّرُ الجَحيمِ ومُميتُ المَوت، ومَملكَتُه لا حُدودَ لها، وهِيَ لَيست مِن هذا العالَم.

وأيضًا غَفَلَ عنهُم أنَّ عَددَ جَيشِهِ رَبْواتٌ ورَبواتٌ مِنَ المَلائِكَة.

وأيضًا وأيضًا غَفَلَ عنهم أنَّهُ حَرَّرَنا مِن عُبُودِيَّةِ الخَطِيئَةِ، وجَعَلَنا أبناءَ اللهِ بِالتَّبنّي بَعدَ أن فَدانا واشتَرانا بِدَمِهِ الكَرِيم.

مَهلاً: هل كَهَنَةُ اليَهودِ والفَرّيسِيّونَ والكَتَبَةُ وغَيرُهم مَعذُورُون؟ وهُم الّذينَ يَتبَاهُونَ أنَّهم يَحفَظونَ الأسفَارَ المُقَدَّسةَ ويُعلِّمُونَها!؟ وهُم الّذينَ أجابُوا هِيرودُسَ أنَّ في بَيتَ لَحمَ يُولَدُ المُخَلِّصُ، عِندَما استَدعاهُم وسألَهُم عن مَكانِ وِلادَتِهِ بِحَسبِ أسفارِهِم!.

هل هُم مَعذُورُونَ بعدَ أن كلَّمَهُم يَسوعُ كيفَ تَكَلَّمَت عليه الكُتُبُ المُقَدَّسَةُ وكيفَ تَحقَّقَتِ النُّبُوءَات!؟

هل هُم مَعذُورُونَ بَعدَ أن شَاهَدُوا كُلَّ مَا فَعلَ الرَّبُّ أَمامَهُم مِن شِفاءَاتٍ وعَجَائِبَ وإقَامَةٍ للمَوتَى، وخاصَّةً إقامَتُهُ للَعازَرَ الّذي أنتَنَ في القَبرِ أربَعَةَ أيَّام!؟.

وماذا عَنّا نَحن؟!.

فها هُوَ آتٍ لِيَدخُلَ قُلوبَنا، ويَسألَنا في الأُسبُوعِ العَظيم، كُلَّ يَومٍ: في صَلاةِ الخَتَنِ الأُولى: أَلا تُريدُونَ أن تَكُونُوا عَفيفِينَ مِثلَ يُوسُفَ العَفيفِ، وتَأتُوا بِثِمارٍ جَمَّة؟ أَم تُريدُونَ أن تَكُونُوا عَقيمِينَ مِثلَ شَجرَةِ التِّينِ العَقيمَةِ؟

فِي صَلاةِ الخَتَنِ الثَّانِيَة: بِمَن تُريدُونَ أن تَتمَثَّلُوا، بِالعَذَارَى الخَمسِ العَاقِلاتِ أم بِالخَمسِ الأُخَر الجَاهِلات؟ أَلا تُريدُونَ لِقاءَ عريسِ نُفوسِكِم ومُخَلِّصِكُم؟.

في صَلاةِ الخَتنِ الثَّالِثَة: ألا تَشتَهُونَ تَوبَةَ المَرأةِ الزَّانِيَةِ الّتي غُفِرَت كُلُّ خَطايَاهَا بِسَبَبِ تَوبَتِها العَظِيمَة؟.

في صَلاةِ الزَّيتِ المُقَدَّسِ: ألا تُريدُونَ أن تَنالُوا الرَّحمَةَ الإلَهِيَّة؟.

في يَومِ الخَميسِ العَظيم: أَلا تُريدُونَ مُشارَكَتي في مَائِدَةِ القُدُساتِ الإلهيَّةِ – جَسدِي ودَمي الكرِيمَين؟ ألا تُريدُونَ أن تَتواضَعُوا وتَغسِلوا أَرُجَلَ إخوَتِكم فَيكونُ لَكُم مَعي نَصيبٌ؟ أم تُريدُونَ تَقبيلِي قُبلَةً غَاشَّةً وتَخونونَني مِثلَ يَهُوذا؟ وأيضًا، أَلا تُريدُونَ السَّهرَ مَعي في آلامِي وصَلبِي؟.

في يَومِ الجُمعَةِ العَظيم: ألا تُريدُونَ إستِقبالي في مَغارَةِ قُلوبِكُم فأجعَلَها قلوبًا جَدِيدة بِقِيامَتِي؟.

في السَّبتِ العَظيمِ: أَلا تُريدُونَ إنشادَ قِيامَتي، ورَشَّ وَرقِ الغَار، فيرتدي قَلبكُم اللونَ الأبيضَ، لَونَ الطَّهارَةِ والنَّقاوَةِ كمَا تَفعلُ الكَنيسَة؟.

وفِي أَحَدِ الفِصحِ المَجيد: أَلا تُريدُونَ أن تَفتَحُوا لي قُلوبَكم لأُخَلِّعَ أبوابَ الجَحيمِ، وانتَشِلَكُم مِن بَراثِنِ الخَطايا المُميتَةِ، لِتَصرُخُوا مَعي فَرِحينَ: المَسيحُ قَام؟.

لِنَصرُخَ جَميعُنا، الآن، مِن كُلِّ قُلوبِنا ومِن كُلِّ نُفوسِنا: "أُوصَنَّا" أي خَلِّصنا يا ربُّ.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.