شاهد نفسه في رؤيا يحمل وعاءً مملوءًا حليبًا حيث بدأ يفيض كنبع، وينسكب خارج الوعاء. ثمَّ بدا وكأنَّه استحال خمرة ممتازة زكيَّة الرائحة... فجأة ظهر له إنسان نورانيٌّ بلباس عسكريٍّ وقال له: «لِمَ لا تعطي يا غريغوريوس الآخرين بعضًا من هذا الشراب العجيب المنسكب بغزارة، بل تتركه يذهب هدرًا؟ ألا تعلم أنَّه هبة من الله ولن ينضب أبدًا؟». فأجاب غريغوريوس: «لا طاقة لي على منح مثل هذا الشراب لأحد، ولا يوجد من يطلب مثل هذا النوع من الشراب». أجابه الرجل: «وإن لم يكن من يسعون في طلب مثل هذه الخمرة، في الوقت الحاضر، فعليك أن تعمل ما في وسعك، ولا تتهاون في تقديمه للآخرين. أمَّا الإثمار فمتروك للَّه».

هذه رؤيا حصلت لكوكب الهدوئيَّة والصلاة القلبيَّة، القدِّيس غريغوريوس بالاماس[1] (1296-1368م)، وتخصِّص الكنيسة الأرثوذكسيَّة له الأحد الثاني من ​الصوم​ الأربعينيِّ المقدَّس.

وُلِدَ غريغوريوس في القسطنطينيَّة، ولمع في العلوم الدنيويَّة والفلسفيَّة لدرجة أنَّ من سمعه ظنَّ نفسه يسمع أرسطو. ترك غريغوريوس في أولى شبابه البلاط الملكيَّ حيث ترعرع، وسار خلف عشق قلبه، وترهَّب، وأصبح قامة روحيَّة كبيرة، ومدافعًا قويًّا عن الهدوئيَّة Hésychasme، وكيف يتألَّه الإنسان بقوى الله غير المخلوقة المنحدرة نحوه، هذا إن جاهد المرء الجهاد الحسن.

لا ريب في ذلك، فوالد القدِّيس كان عضوًا في مجلس الشيوخ ال​روما​نيِّ وممارسًا للصلاة القلبيَّة باستمرار، حتَّى أنَّه كان يغرق فيها في حضرة الإمبراطور الَّذي كان يحترمه كثيرًا.

للقدِّيس غريغوريوس علاقة كبيرة مع والدة الإله منذ صغره، فقد طلب منها بحرارة أن تساعده في حفظ دروسه، فلبَّت طلبه، ورافقته مدى حياته الأرضيَّة في جهاده ونسكه وصلاته وكتاباته.

تعلَّم منها التواضع والطاعة والخدمة. ولم يتكبَّر إطلاقًا بالرغم من أنَّه برع في الخطابة والوعظ والتعليم، وكان شرحه غنيًّا وفيَّاضًا. فكان كلَّ مرَّة يتكلَّم فيها يعتبر نفسه واقفًا في الحضرة الإلهيَّة، وأمام والدة الإله يعلن بشارة الخلاص.

يحضر أمامنا في هذا السياق أقدم تصوير لحدث بشارة والدة الإله، وهو جداريَّة من منتصف القرن الثاني الميلاديِّ، أو بداية القرن الثالث الميلاديِّ، في دياميس روما. نشاهد فيها ​مريم العذراء​ في رداء رومانيٍّ pallium، جالسة على كرسيٍّ عالٍ، ويقف الملاك أمامها بهيئة رجل، رداؤه رومانيٌّ وأكمامه كبيرة وواسعة. يمدُّ يده اليمنى نحو العذراء كأنَّه يتلو خطابًا رسميًّا.

جلوس والدة الإله ووقوف الملاك أمامها، يشيران إلى رفعة مقامها، كأنَّها إمبراطورة تستقبل مرسلًا أو زائرًا.

مريم في هذه الجداريَّة مكشوفة الرأس، خلاف كلِّ الأيقونات اللاحقة الَّتي سنرى والدة الإله فيها مغطَّاة الرأس كما كان سائدًا في الشرق. شعر مريم منسدل، كدليل على عذريَّتها، هكذا كان شعر النساء غير المتزوِّجات في الفن الروماني.

بالعودة إلى قدِّيسنا هو ترجم مفاعيل وثمار ​عيد البشارة​ في حياته، سائرًا على درب الكلِّيَّة القداسة.

العذراء امتلأت من الروح القدس، وهو جاهد لذلك.

هي تجسَّد الربُّ فيها، وهو تجسَّد ​الإنجيل​ فيه.

هي ولَّدت الربَّ للبشريَّة، وهو ولَّد كتابات عديدة وشروحات ألهبت قلوب المؤمنين.

هي أرضعت الربَّ حليبًا، وأعلمته عن نقص الخمر في ​عرس قانا​ ​الجليل​، فحوَّل الماء إلى خمر إشارة إلى دمه على الصليب لخلاصنا.

وهذا ما طلبه الربُّ من غريغوريوس في رؤياه، فأعطى المؤمنين حليبًا روحيًّا لنعود نشرب جميعًا من الدم الإلهيِّ في القدَّاس الإلهيِّ.

العذراء بعد الحبل بالروح القدس ذهبت فورًا لتخدم نسيبتها أليصابات، وغريغوريوس بعد أن امتلأ من الروح القدس، بدأ يخدم كنيسته مدافعًا عن إيمانه المستقيم والصلاة القلبيَّة في وجه الهرطقات والبدع، الَّتي تمثَّلت بوقتها بشخص يدعى برلعام أراد تلقُّف اللاهوت كمادَّة فكريَّة دون الروح، مهاجمًا الصلاة القلبيَّة والهدوئيَّة والتألُّه، والقوى الإلهيَّة غير المخلوقة المنحدرة علينا، ومعاينة نعمة الله في النور غير المخلوق المتدفِّق في «موضع القلب».

يخطئ من يعتقد أنَّ الصلاة القلبيَّة تخصُّ الرهبان حصرًا، بل هي تخصُّ كلَّ واحد منَّا. ومن يمارسها ويعيشها يعي أهميَّتها، فعبارة: «يا ربِّي ​يسوع المسيح​ يا ابن الله الحيِّ، ارحمني أنا الخاطئ»، لو قالها المؤمن ألف مرَّة في اليوم الواحد، لا يكتفي منها، لأنَّها ليست ترداد كلمات، بل هي تنفُّس وعمليَّة تنقية وتوبة من عمق القلب، وعشق ما بعده عشق لإله أتى إلينا ليرفعنا إليه.

فهذه الصلاة تجعلنا نمرُّ بالمراحل الروحيَّة الثلاث: التنقية، والاستنارة، والتألُّه. الأولى بالتوبة، والثانية باتِّحاد القلب مع العقل ليستنير الذهن، والثالثة بالامتلاء من الروح القدس. ونعود أوّلًا إلى الحالة الأولى التي خرجنا منها من جرن المعوديّة: أنقياء وأطهار.

قد يكون هذا الكلام مبهمًا لمن لم يذق طعم الربِّ.

القدِّيس غريغوريوس بالاماس مثال لنا جميعًا، فهو كان بمثابة طائر بجناحين رأسه يسوع. الجناح الأوَّل الصلاة والجناح الثاني المعرفة. فهو لم يهوَ علم اللاهوت بل عيشه. هذا ما جعل وجهه منيرًا ونورانيًّا كالوجوه الَّتي تكتب في الأيقونة، فارتسم على وجهه ما قاله الربُّ عن الملائكة: «ينظُرون وجه أبي الَّذي في السماوات» (متَّى 18: 10). وهذا ما شهد عليه الرهبان والمؤمنون الَّذين كانوا يشاهدونه كملاك.

خلاصة، ما أعلنه القدِّيس غريغوريوس، لم يكن شيئًا جديدًا في الكنيسة، بل ترجم ببراعة مميّزة وفريدة وبمعونة الروح القدس حقيقة الإيمان المسيحيِّ وجوهره منذ البدء.

نحن مدعوُّون إلى أن نماثله، و لنصبح إناءً نورانيًّا مملوءًا بالروح القدس.

فقلَّاية القدِّيس غريغوريوس بالاماس سطع منها نور فور رقاده، وقد سمح الله بذلك تعزية لنا وإعلانًا وتأكيدًا أنَّنا أبناء النور الإلهيِّ وإلى هذا النور دُعينا.

إلى الربِّ نطلب.

[1]. لقراءة سيرته https://holytrinityfamily.org/