فيما لا يزال اللبنانيون "يلتهون" بسلسلة الاستحقاقات السّياسية التي لا تنتهي، والتي تبدو بلا أفق، من "المعركة" على رئاسة اللجان النيابية وعضويتها، إلى "أزمة" تشكيل الحكومة، التي يبدو أنّ العصيّ توضَع في دواليبها، رغم أنّها لا ينبغي أن "تعمّر" أكثر من أشهر معدودة، عاد ملفّ ​ترسيم الحدود​ البحرية إلى واجهة الأحداث، بل الملفات "الخلافيّة".

ففي توقيت قد يبدو "ملتبسًا" لكثيرين، وقد يرى فيه آخرون "استغلالاً" من الجانب الإسرائيلي للانشغالات اللبنانية بـ"جنس الملائكة"، رُصِدت حركة "استفزازية" على الحدود البحرية، مع وصول سفينة "اينرجين باور" التي تضمّ وحدة إنتاج الغاز الطبيعي وتخزينه، إلى حقل "كاريش" النفطي، الأمر الذي يسمح للإسرائيليين باستخراج الغاز خلال 3 أشهر.

سريعًا، "استنفر" اللبنانيون الذين كانوا ربما نائمين على "حرير" تجميد المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة، فكان إجماع على رفض "الاعتداء" الإسرائيلي على الحقوق اللبناني، وعلى وجوب "التصدّي" لأيّ محاولة إسرائيلية لفرض "أمر واقع" في منطقة متنازع عليها، ما قد يعتبر "افتعالاً" لمعركة قد لا تكون محسوبة.

لكن، سريعًا أيضًا، انقسم اللبنانيون فيما بينهم، فبدأ تبادل "الاتهامات" عن "المسؤولية" خلف الوقاحة الإسرائيلية، حيث حمّل البعض الرئيس ميشال عون المسؤولية، بتجميده مرسوم تعديل الحدود البحرية وعدم التوقيع عليه منذ أشهر، في اتهام "يردّه" المحسوبون على الرئيس إلى مطلقيه، مذكّرين برسالة جرى تعميمها على أعضاء مجلس الأمن تؤكد تمسك لبنان بكلّ حقوقه.

وبين هذا وذاك، وسط كلّ هذه "المعمعة" التي لا يبدو أنّها ستنتهي عمّا قريب، اتّجهت الأنظار نحو موقف "حزب الله" من القضية، بعدما كان أمينه العام السيد حسن نصر الله حذّر في أحد خطاباته "الانتخابية" من أيّ "مسّ" بحقوق لبنان المائية والنفطية، وأكّد "جاهزيته" للتصدّي لأيّ اعتداء، فهل يفعلها ويعلنها "حربًا"، هذه المرّة بعنوان "الغاز والنفط"؟!.

بالنسبة إلى العارفين بأدبيات "حزب الله"، فإنّ المطلوب قبل الحديث عن "ردّ الحزب"، قد يكون أن "تحزم" الدولة أمرها، وترسم طريق "المواجهة"، وهو ما يتطلب منها أولاً وقبل كل شيء، تحديدًا دقيقًا ورسميًا للحدود المائية والبحرية للبنان، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه بنتيجة ذلك، ويصبح أيّ انتهاك إسرائيلي للسيادة موثَّقًا، ما يجعل "المقاومة" طريقًا حتميًا، وحقًا مشروعًا تنصّ عليها أساسًا كلّ المواثيق والتشريعات الدولية ذات الصلة.

بهذا المعنى، فإنّ الكرة لا تزال في ملعب "الدولة"، وفق ما يرى كثيرون، ولا سيما المسؤولين الذين يتمسّكون بخيار "الدبلوماسية" من أجل استرجاع الحقوق، ومنع أيّ تعدٍّ عليها، من أيّ جهة أتى، ولذلك فإنّ المطلوب من هؤلاء، وخصوصًا بعد ضرب إسرائيل المفاوضات غير المباشرة التي كانت تتمّ مع لبنان عرض الحائط، أن "يستنفروا" لإثبات حقوق لبنان بكلّ الوسائل، بما "يلزم" إسرائيل أساسًا وقف أيّ عمليات حفر أو تنقيب في أيّ منطقة متنازع عليها.

لا يعني ذلك، كما يقول هؤلاء، أنّ "حزب الله" ليس بوارد التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية، ولو أنّه يوحي أنّه يكتفي بـ"المراقبة" في المرحلة الراهنة، فهو وفق ما يؤكد كلّ العارفين بأدبيّاته، على أتمّ التأهّب والاستعداد، وقد راكم من الخبرات والمعدّات ما يجعله "جاهزًا" لخوض أيّ "مواجهة"، وقادرًا على "مفاجأة العدو" فيها، وذلك بناءً على مقولته الشهيرة: "نحن لا نريد الحرب، لكن إن فُرِضت علينا، فنحن لها".

الأكيد، بحسب ما يقول هؤلاء، أنّ أيّ خطوة سيقدم عليها "حزب الله" ستكون "مدروسة"، فهو وحده من يحدّد "التوقيت المناسب" لأيّ رد، كما شكله وصيغته، باعتبار أنّ مثل هذا الأمر يفترض أن يخضع للكثير من الحسابات والتكتيكات، وأولها عامل "المفاجأة"، وفق العارفين، الذين يكادون يجزمون بأنّ الحزب لن يقدم على أيّ خطوة، فيما "العدو مستنفر وبالمرصاد"، كما هو الحال اليوم مثلاً، وهو ما يتجلّى في متابعة الإعلام الإسرائيلي للأمر.

في المقابل، ثمّة "مفارقة" لفتت انتباه الكثيرين في اليومين الماضيين، تتمثّل في ما يصفها العارفون بأدبيّات "حزب الله" بـ"المزايدات" عليه، والتي صدرت خصوصًا من جانب خصومه، ممّن استهجنوا "صمته" على الارتكابات الإسرائيلية، واستغربوا عدم إقدامه على أيّ خطوة، علمًا أنّ هذه القوى نفسها خاضت الانتخابات على أساس "رفض السياسة"، ومناهضة "احتكار قرار الحرب والسلم"، فإذا بها اليوم تطالب بتكريسه بشكل أو بآخر.

صحيح أنّ بعض من خرجوا بهذا الخطاب، من نواب ومسؤولين وشخصيات، قد يكون انطلق من "نيّة صافية"، باعتبار أنّ المقاومة لطالما كانت "ورقة قوة وضغط" بيد لبنان، في وجه أيّ محاولات وأطماع إسرائيلية، لكنّ البعض الآخر برأي المحسوبين على الحزب، لم يفعلوا ذلك سوى عن "خبث"، يرتقي لمستوى "الخيانة"، من خلال توظيف قضية وطنية بهذا الحجم لتصفية الحسابات السياسية وتسجيل النقاط، لا أكثر ولا أقلّ.

يقول هؤلاء إنّهم لا يبالغون حين يؤكدون أنّ هؤلاء أنفسهم سيكونون أول المستنكرين في حال قرّر "حزب الله" الامتثال لرغباتهم، وتوجيه أيّ ضربة للسفينة العائمة، بل إنّ "خطابهم" شبه جاهز، لجهة اعتبارهم أنّه "مأزوم" على المستوى السياسي، ولذلك فهو يريد "توريط" لبنان في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، بدل ترك القنوات الدبلوماسية تفعل فعلها، خصوصًا لجهة العودة إلى المفاوضات، التي سبق أن "باركها" الحزب بشكل أو بآخر.

في النهاية، لا شكّ أنّ الآراء تتباين وتختلف بين من يعتبر أنّ السياسيين يتحمّلون مسؤولية "ضياع" الملف وخسارة لبنان للكثير من حقوقه، بين من يرى أنّ "حزب الله" متقاعس وهو لم يفعل شيئًا، ومن يعتبر في المقابل أنّه يجب أن يبقى "الورقة الأخيرة" في الصراع، إلا أنّ الأكيد أنّ على جميع القوى السياسية التعامل مع الملف باعتباره "قضية وطنية سيادية"، لا مجرد "أزمة" يمكن من خلالها تسجيل النقاط وتحقيق بعض المكاسب "الآنية"!.