مما لا شك فيه ان التعميم رقم 157 تاريخ 2021/5/10 الذي توصل من خلاله المصرف المركزي الى أنشاء منصة الكترونية لتداول العملات في سوق الصرافة، وأطلق عليها تسمية منصة "صيرفة" قد جاء نتيجة مخاض عسير تعثر خلاله محاولات أطلاق منصات مشابه منذ بدء الأزمة المالية في لبنان.

ومما لا خلاف حوله هو أن تدخل المصرف المركزي لأجل تنظيم مهنة الصرافة أمر تأملاً فيه الكثير من التفاؤل، لاسيما أمام غيابه ولجنة الرقابة على المصارف عن تنظيم قطاع سوق الصرافة خلال عقود خلت. ألا أنه أمام الأزمة المالية وأساليب التلاعب بسعر الصرف على أكثر من مستوى، واستغلال ضيق المواطن وعدم ألمامه بالمواضيع المالية، كان لابد من التوصل الى آلية واضحة مُنظمة تعكس الشفافية في الأداء والنزاهة في التطبيق. وهذا ما نقرأه في مضمون التعميم رقم 157 من تأسيس وتنظيم في آلية عمل منصة صيرفة، إلا أن الأمر يختلف كل الاختلاف بين مضمون التعميم وآلية التطبيق على أرض الواقع، خصوصاً عندما تكون الجهات المخالفة هي نفسها من يتوجب عليها أن تتمتع بالشفافية والمصداقية أمام عملائها والمودعين لديها، أي عندما تستغل المصارف التعاميم التنظيمية الصادرة عن المصرف المركزي والموجهة اليها لصالحها ومصلحتها على حساب الاستقرار النقدي والصالح العام.

ومما يجمع عليه كل من تناول موضوع التوقيع على كتاب رفع السرية الذي تفرضه المصارف على المودع عند سحب أمواله من حسابه المصرفي، يتمحور حول صحة أو مخالفة المصارف لهذا الأجراء. ألا أن الإشكالية في مكان أخر بعيداً عن السرية المصرفية وتكمن في استغلال المصارف لسحوبات المودع والتحايل على التعاميم التنظيمية والتلاعب بحجم التداول.

وعليه، لتوضيح الأمر يقتضي أولاً تحديد متى يحق للمصارف أن تفرض على العميل التوقيع على كتاب رفع السرية، ومن ثم كشف عمليات الاستغلال التي يتعرض لها المودع؛ أضافة الى الاقتطاع الذي يتكبده من وديعته؛ وكيفية التلاعب بحجم التداول.

متى يتوجب على العميل التوقيع على كتاب رفع السرية المصرفية؟.

للإجابة على هذا السؤال، يتوجب على العميل تحديد طبيعة الإجراء الذي يقوم به، أي هل هو أجراء ضمن مفهوم قانون تنظيم مهنة الصرافة وبالتالي يتوجب عليه التوقيع على كتاب رفع السرية المصرفية، او هو أجراء يقوم به المودع من خلال سحب أمواله من حسابه المسجل لدى المصرف التجاري؟ وللتسهيل سنقوم بتقسيم الإجراء الى قسمين:

القسم الأول: قيام العميل بأجراء عملية صرافة من خلال بيع او شراء العملات النقدية داخل المصرف وضمن مفهوم قانون تنظيم مهنة الصرافة من خلال التداول عبر السعر المحدد على منصة صيرفة. مثال: قيام العميل بالطلب من المصرف التجاري أجراء عملية بيع للأموال النقدية في حوزته، سواء كان نقد وطني أو أجنبي، وطلب شراء ما يقابل الأموال النقدية في يده بعملة أخرى، وفقاً للسعر المحدد على منصة صيرفة. المعيار هنا، تواجد العميل في المصرف التجاري وفي حوزة العميل أموال نقدية بهدف وغاية التداول بها، أي بيعها وشراء ما يقابلها من عملة أخرى وفقاً للسعر المحدد على منصة "صيرفة".

وضمن هذا التصنيف، تجدر الإشارة الى ان أصحاب الحسابات المسجلة بالعملة الأجنبية بعد تاريخ 9/4/2020، أي وفقاً لمضمون التعميم الأساسي رقم 150 تاريخ 9 نيسان 2020، (أي ما يدعى تسهيلاً ويعرف عنها بالأموال الجديدة بالرغم من عدم صوابية التعريف)، كذلك أصحاب الحسابات المسجلة بالليرة اللبنانية، وفي حال قرر العميل من بعد الانتهاء من عملية أجراء السحب بالاستفادة من منصة صيرفة، يتوجب عليه الالتزام بتوقيع مستند يرفع بموجبه السرية المصرفية عن العملية التي تتم لصالحه على المنصة تجاه مصرف لبنان ولجنة الرقابة، وفقاً لمضمون التعميم رقم 157 تاريخ 10 أيار 2021، المادة الأولى فقرة(2).

وهنا رفع السرية عن المعلومات المطلوبة لإجراء عملية الصرف، أي تاريخ وقيمة المبلغ واسم ورقم وهاتف وتعريف البيانات الشخصية لطالب أجراء عملية تحويل المبلغ وفقاً لسعر صرف منصة صيرفة، وليس رفع السرية المصرفية عن الحساب المصرفي الذي يملكه العميل.

القسم الثاني: قيام المودع بأجراء عملية مصرفية متعلقة بحسابه المصرفي المسجل لدى المصرف التجاري بالعملة الأجنبية، وهي نوعان:

النوع الأول:

الحسابات المسجلة بالعملة الأجنبية قبل 31/10/2019، والتي يمكن للمودع الاستفادة من مضمون التعميم رقم 158 تاريخ 8/6/2021 وتعديلاته، وفي حال قرر المودع الاستفادة من أحكام التعميم 158، يتوجب على المودع رفع السرية حصراً عن الحسابات الخاصة المتفرعة وليس عن كافة الحسابات العائدة للمودع، وذلك وفقاً للنموذج المحدد من قبل المصرف المركزي، أي النموذج(BDL-BDR-01-PP) ...

النوع الثاني: الحسابات المسجلة بالعملة الأجنبية او التي يقرر المودع فيها عدم الاستفادة من التعميم 158 في توفر شروطه، أي تلك الحسابات المصرفية المسجلة بالعملة الأجنبية والتي تخضع لأحكام التعميم رقم 151 تاريخ 21/4/2020.

ضمن هذا التصنيف، يقوم المودع هنا بأجراء عملية سحب من حسابه المسجل بالعملة الأجنبية لدى المصرف التجاري، ووفقاً للسقف المحدد وتبعاً لشطور قيمة الوديعة كما يحددها المصرف التجاري بموجب جداول علنية. يستلم المودع قيمة السحب المحدد السقف من حسابه بالعملة الأجنبية بما يقابلها بالليرة اللبنانية سنداً للتعميم رقم 151 وتعديلاته، أي ثمانية ألاف ليرة لكل دولار أمريكي. يقوم المصرف تلقائياً هنا بتحويل قيمة المبلغ المسحوب بالليرة اللبنانية الى الدولار على سعر صرف منصة صيرفة، سنداً للتعميم رقم 161 تاريخ 16/12/2021.

هنا لا يتوجب على المودع التوقيع على كتاب رفع السرية المصرفية، بكونه لا يقوم بتنفيذ عملية صرافة وفقاً لقانون تنظيم مهنة الصرافة، كما لا يخضع لمضمون التعميم رقم 157 تاريخ 10/5/2021 المتعلق بأنشاء منصة صيرفة، بل يقوم بهذا الإجراء وفقاً للتعميم رقم 161، الذي جاء في نص مادته الأولى ما يلي:

"إستثناءً لأي نص تنظيمي صادر عن مصرف لبنان، يقوم مصرف لبنان بتزويد المصارف بالدولار الأمريكي النقدي....وذلك ضمن المبلغ المتبقي من السقف المحدد لكل مصرف للسهر الجاري."

المادة الثانية من التعميم رقم 161:

"على المصارف أن تقوم بدفع كامل المبالغ موضوع المادة الأولى أعلاه، أوراقاً نقدية بالدولار الأمريكي لعملائها. بدلاً من تسديد المبالغ التي تعود لهم بالليرة اللبنانية الناتجة عن أجراء سحوبات او عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المستحقات العائدة لهم، وفقاً للحدود المعتمدة لتنفيذ هذه العمليات لدى المصرف المعني".

وعليه، تبعاً لتدخل المصرف المركزي بشكل مباشر مع المصارف، لا يخضع المودع لاي موجب سواء قانوني او تنظيمي يلزمه برفع السرية المصرفية، بكون الاجراء المصرفي الذي يقوم به لا يدخل ضمن قانون تنظيم مهنة الصرافة، بل هو استرداد للوديعة التي تم الاقتطاع منها نسبة كبيرة تبعاً للازمة المالية.

وضمن هذا التصنيف، يدخل أيضاً الموظف العام عندما يقوم بسحب راتبه، وذلك سنداً للتعميم الأساسي رقم 162 تاريخ 28/ 3/2022، بحيث حددت المادة الأولى منه ما يلي: "على المصارف تأمين السيولة اللازمة لسحب موظفي القطاع العام كامل رواتبهم الشهرية وملحقاتها والمساعدات الاجتماعية والمستحقات من صناديق التعاضد العائدة لهم وعدم وضع قيود عليها سواء لناحية تحديد سقوف للسحوبات النقدية منها او تقسيطها على دفعات أو فرض عمولات او نفقات من أي نوع كانت وعدم التذرع بالسقوف المحددة للسحوبات النقدية من حساباتها لدى مصرف لبنان."

بالمحصلة، يبقى السؤال: لماذا تقوم المصارف بألزام العميل على رفع السرية المصرفية ؟ وهل هناك من أسباب أخرى لا تتعلق بالسرية المصرفية بل للاستفادة من الطلبات الموقعة بهدف التلاعب في تحديد معدلات حجم التداول على منصة صيرفة؟ هذا ما سوف نعالجه في المقال المقبل.