قد يكون وصف "قبيحة" الذي أطلقه البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​ على الحملات الإعلامية الدائرة "بين مرجعيات وقوى سياسية مختلفة" هو بالمثل "الأنسب" في مقاربة "حرب البيانات" بين كلّ من رئيس حكومة تصريف الأعمال ورئيس الحكومة المكلّف ​نجيب ميقاتي​ من جهة، و"التيار الوطني الحر" بشخص رئيسه الوزير السابق ​جبران باسيل​ من جهة ثانية.

فمنذ ما قبل إحياء ال​لبنان​يين الذكرى السنوية الثانية لانفجار مرفأ بيروت، ومن دون مراعاة لـ"رمزيّة" الذكرى، أو اتعاظ من "العِبَر" التي تنطوي عليها، وحتى فيّ عزّ انشغالهم بأخبار العدوان الإسرائيلي على غزة، والسيناريوهات التي حيكت حول إمكان تحوّله لحرب شاملة، كان الحدث الطاغي على كلّ ما عداه هو اشتعال "جبهة باسيل-ميقاتي"، بشكل مفاجئ.

وكما درجت العادة منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يواجهها لبنان، استُحضِرت كلّ "الأسلحة" في "الحرب الكلامية" غير المبرّرة ولا المفهومة، أخلاقيًا بالحد الأدنى، بين باسيل وميقاتي، حيث لم يتردّد كلّ طرف في "الذمّ بالآخر"، وتوزيع الاتهامات عليه يمينًا ويسارًا، ليشهد اللبنانيون على مستوى غير مألوف في التراشق الإعلاميّ بين القوى السياسية.

فلماذا "اشتعلت" الجبهة بين رئيس الحكومة المكلّف ورئيس "التيار الوطني الحر" بهذا الشكل؟ هل هو الإقرار الضمني بأنّ لا حكومة ستؤلف ولا من يحزنون في ظلّ "القطيعة" شبه المعلنة بين ميقاتي ورئيس الجمهورية؟ من الذي انزلق بالسجال إلى هذا المستوى؟ وأيّ رابط بين "حرب البيانات" والاستحقاق الرئاسي، الذي يبدو أنّه بات "الرقم واحد" هذه الأيام؟.

لعلّ المفارقة اللافتة، بل المثيرة للجدل، أنّ كلّ فريق يحمّل الآخر مسؤولية انزلاق السجال إلى المستوى الذي ظهر به، رغم أنّ أحدًا "لم يقصّر" في حقّ الآخر، بل إنّ الطرفين "تفنّنا" في أدبيّات الهجوم، ولو أنّ لكلّ منهما نظريته لـ"تبرير" ما وقع، حيث يتحدّث "التيار الوطني الحر" مثلاً عن "محاولة اغتيال" يتعرّض لها الوزير باسيل، في حين يرفض ميقاتي ما يسمّيه المحسوبون عليه بـ"شدّ عصب رئاسي" يمارسه باسيل، على حسابه الشخصيّ.

بالنسبة إلى "التيار الوطني الحر"، فإنّ ميقاتي هو الذي "افتعل" السجال الأخير، وهو الذي أوصل الأمور إلى هذا المستوى، خصوصًا حين استخدم في أول بياناته عبارة "شيلي اللي فيكي وحطيه فيي"، التي أقرّ بعض خصوم باسيل أنّها لم تكن "موفّقة" لا في الشكل ولا في المضمون، خصوصًا لما تنطوي عليه في التراث الشعبي، من مضامين لا تليق أساسًا بخطاب سياسي مسؤول وجاد، فكيف إذا كان صادرًا عن شخص رئيس الحكومة.

وإذا كان المحسوبون على "الوطني الحر" يعتبرون، استنادًا إلى ما تقدّم، أنّ ميقاتي هو الذي "أساء" لموقع رئاسة الحكومة ببياناته ومواقفه هذه، على نقيض خطاب "المظلومية" الذي يلجأ إليه، فإنّهم يشيرون إلى أنّ افتعال مثل هذه السجالات مردّه أنّ الرجل يحاول "تحوير الحقائق"، والإيحاء بأنّ الوزير باسيل هو الذي يعرقل ​تشكيل الحكومة​، في حين أنّ القاصي والداني يدرك أنّ قراره بعدم التأليف متّخَذ منذ ما قبل الاستشارات النيابية التي أفضت إلى تكليفه.

ويشدّد هؤلاء على أنّ ما يقوم به "التيار" في بياناته المتلاحقة ليس سوى "دفاع عن النفس"، إذ ليس من الوارد بالنسبة إلى الوزير باسيل السكوت على مثل هذا الهجوم، خصوصًا إذا كان جزءًا من "سيناريو" بدأ منذ عام 2019، يهدف إلى "محاولة اغتيال" رئيس "التيار" سياسيًا، عبر تحميله مسؤولية كلّ الأزمات، بل تصويره وكأنّه "فاسد"، في حين أنّ سجلّ الآخرين هو المليء بالأخبار عن "صفقات وسمسرات" وصل بعضها إلى القضاء.

ولا يستبعد المحسوبون على "التيار" أن تكون ​الانتخابات الرئاسية​ في "أجندة" الحملة التي اختار ميقاتي أن يقودها في وجه باسيل، خدمة لبعض الجهات والأطراف ربما، خصوصًا أنّ توقيت الهجوم لا يمكن أن يفسَّر سوى بهذا الشكل، ولا سيما أنّه يتزامن مع المواقف الواضحة التي يطلقها باسيل ويؤكد من خلالها "حقه" في أن يكون "الناخب الأول" رئاسيًا، بل ربما "المرشح الأول" الذي لا ينازعه أحد على لقب "الفخامة"، وفق هؤلاء.

ومن الباب "الرئاسي" تحديدًا، ينطلق المقرّبون من ميقاتي لربط السجال الأخير بالاستحقاق الرئاسي، ولكن من وجهة نظر "مناقضة" يتصدّرها باسيل، الذي يحاول "شدّ العصب" المسيحيّ في وجه رئيس الحكومة، ويلجأ إلى "الشعبوية" على جري العادة من أجل إقناع جمهوره بأنّه يتعرّض لمحاولة اغتيال وتشويش، علمًا أنّ القاصي والداني يعرف أنّ حظوظ باسيل الرئاسية شبه منعدمة، بغياب أيّ دعم له، حتى من جانب حليفه الثابت والصامد الوحيد.

ويقول المحسوبون على رئيس الحكومة إنّ الأخير ليس أبدًا من يتحمّل مسؤولية "افتعال" السجال مع باسيل، ويمكن العودة إلى بيانات مكتبه الإعلامي للتأكيد على ذلك، إذ إنّها بمجملها أتت "ردًا" على بيان لـ"التيار الوطني الحر"، ما يعني أنّ ميقاتي هو من "يدافع عن نفسه" وليس العكس، إلا أنّ هذا ربما ما فاجأ باسيل وأحرجه أمام جمهوره، بعدما كان يعتقد أنّ بوسعه أن يقول ما يشاء من دون أن يردّ عليه أحد، وهو ما لم يعد ميقاتي راضيًا به.

ويوضح هؤلاء أنّ ما "استفزّ" ميقاتي ودفعه لخوض "المعركة" في وجه باسيل، هو أنّ الأخير حاول الإيحاء بأنّ رئيس الحكومة "لا يريد" تشكيل حكومة، في حين أنّ الوقائع معروفة للجميع، إذ إنّ ميقاتي "قام بواجباته كاملة"، وفق هؤلاء، حين قدّم لرئيس الجمهورية مسودّة كاملة للتشكيلة الحكومية فور انتهاء الاستشارات، فيما قوبل بالتشكيك بالنوايا، حتى إنّ الموعد الأخير الذي طلبه لزيارة بعبدا وبحث ملاحظات الرئيس على تشكيلته لا يزال دون ردّ.

بين "محاولة الاغتيال" التي يشكو منها باسيل، وفق المحسوبين عليه، و"شدّ العصب" الذي يتهمه المحسوبون على رئيس الحكومة، باللعب على وتره، يبدو واضحًا أنّ اللبنانيين على موعد مع جولات "كباش" جديدة في المرحلة "الفاصلة" عن الانتخابات الرئاسية، التي يسعى كل طرف لرفع "سقفه" فيها، ولو أنّ نتيجة مثل هذه "السجالات" قد تكون أنّ الرئاسة أفرغت من مضمونها، بعدما سقط البلد برمّته، وهنا بيت القصيد!.