على مدى اكثر من ثلاث سنوات، لم يتحرك السفير السعودي في لبنان ​وليد البخاري​ كما تحرك خلال الايام القليلة الماضية، حتى في خضمّ حملة الانتخابات النيابية، كان تحركه خجولاً مقارنة بالنشاط الفائق الذي تميز به في اليومين الماضيين. السبب الذي دفع الى هذه الحركة غير الاعتياديّة هو ​اتفاق الطائف​، خصوصاً وان ​السعودية​ شعرت بالتهديد من قبل الاوروبيين بعد مبادرة ​السفارة السويسرية​ في لبنان التي دعت الى "عشاء حواري" بين اطراف لبنانية، يكون بمثابة تمهيد لعقد مؤتمر في جنيف لبحث الوضع اللبناني والخروج بحلّ جديد.

الاستنفار السعودي بدا واضحاً وكان التحصين على كل الجبهات، فتحرك البخاري بطريقة مكوكية وتنقل يميناً ويساراً لضمان عدم التفريط باتفاق الطائف الذي كال له المديح الى حدّ بات من الممكن اعتباره قلب لبنان النابض، الذي من دونه سيفقد البلد كل مقومات حياته. ولم يكن التحرك هو العامل الوحيد، بل سرعان ما بدأت ​الرياض​ جذب الخطوط التي تمسك بها، فكانت الاعتذارات عن المشاركة في العشاء السويسري من قبل اكثر من طرف، كما بدا الحديث عن "خطورة ما يتمّ طبخه" والتحذير من تداعياته على الساحة اللبنانية، فيما كانت ورقة الطائفيّة حاضرة عبر التلويح بأنّ من سيلبي الدعوة لا يملك ايّ تمثيل سنّي... هذا الضغط أدّى بطبيعة الحال الى نجاح الهدف السعودي فتراجعت السفارة السويسرية عن الدعوة، وصاغت نص التراجع بطريقة لائقة حاولت فيها الحفاظ على ماء الوجه.

في الواقع، رأى الكثير من المتابعين انّ التصرف السعودي اتى بعد الخوف من ان يكون الردّ على قرارها بشأن ​النفط​، عبر لبنان وتحديداً عبر استهداف اتفاق الطائف الذي يعتبر "ابنها المدلل" وورقة حضورها الدائم في لبنان. وتوجّست الرياض شرّاً بالرد الاميركي على قرارها في "​اوبك+​" واتهامها بمحاباة الروس على المصلحة الاميركيّة والاوروبيّة، وبعد ان رأت مدى التأثير الاميركي على لبنان خصوصاً بعد نجاح ​ترسيم الحدود​ البحريّة بسرعة قيّاسية، اعتبرت ان الخطوة التالية ستكون الابتعاد عن الطائف والتحضير لعقد جديد يصلح ليواكب المرحلة الجديدة التي يتحضر لها لبنان على الصعد كافة. غير انه لا يخفى على احد ان اي استهداف للطائف سيعني حكماً استهداف النفوذ السنّي الذي امّن له الاتفاق الذي تم ابرامه في السعوديّة مكانة مهمّة يصعب تجاوزها او تخطيها. ومن شبه المؤكد ان اي اتفاق جديد سيؤدي الى تراجع هذا النفوذ، من دون ان يعني ذلك ان الطوائف الاخرى ستكون هي المسيطرة، انما مجرد تراجع نسبة النفوذ يحمل تداعيات كبيرة وسيّئة بالنسبة الى السعوديّة التي لا ترغب في التفريط بالورقة اللبنانيّة، انما تترقب الوقت المناسب للعبها واستعادة دورها في هذا البلد.

نجحت الرياض في سحب طبق الطائف عن مائدة السفارة السويسريّة، وابلغت من يعنيهم الامر انها لا تزال تملك اصولاً في لبنان ليس من السهل السيطرة عليها، وهذا الامر يفرض أن تتواجد بشكل اكبر على الساحة اللبنانية، لانه لم يعد من المفيد ان تبقي على ظلّها حاضراً فيما غيابها كان واضحاً. من هنا، يمكن القول ان الحضور السعودي سيتعزّز في الآتي من الايام، بالتزامن مع نشاط اميركي-اوروبي على الخط اللبناني قد لا يتقاطع مع الخطّ السعودي، ولكن العمل سيكون جارياً لعدم الوصول الى مواجهة بين الخطين، وهو امر لا مصلحة لاحد منهما فيه لان من شأنه ان يؤدي الى كسوف كبير للجهة التي ستخسر، ولو ان دورها لن ينتهي، الا انه سيشهد تراجعاً كبيراً في وقت حساس يسعى فيه الجميع الى زيادة الدور والحضور.