يَحمِلُ يومُ الحادي والعشرون مِن شَهر تِشرين الثاني عيدًا مُهِمًّا في حياتِنا مع المسيح، وهو دُخولُ سَيِّدتنا والِدة الإله الفائقة القداسة مريم إلى هيكَل أورشليم.

خِدمَةُ هذا العيد وأيقونتُه المُعَبِرّة جِدًّا، جَناحان يُحلِّقان بِنا عاليًا إلى الهيكلِ الغير المصنوع بِيد إنسان، ألا وهو الرَّبُّ يسوع المسيح، الذي سيولَدُ مِن العذراء مريم، فَتُصبِح هي بِذلك والِدَة الإلَه التي سَتُطوِّبها كُلِّ الأجيال[1].

فما أن نَبدأ بالغوص بليتورجيّة هذا العيد والنظر إلى أيقونَتِه، حتى نَجِدَ أنفُسَنا في وسَطِ الحدث نَسير خُطوَةً خُطوَة إلى جانب الطفلة الصغيرة ذاتِ الثلاث سنوات، مع والدَيها يواكيم وحنّة، ورئيسِ الكهنة زكريا، والعذارى الحاملين المَصابيح، لنشارِكَ العذراءَ في عُبورِها الأرضيّ - السّماويّ.

إنَّ النصوصَ الليتورجيّة في اليوم السابق لهذا العيد المعروفِ بـِ (تقدمة العيد)، وصلاةِ الغروبِ بما فيها القراءات الثلاث المختارة مِن العهد القديم، وصلاةِ السَحَرِ وإنجيله وتراتيله، والقدّاس الإلهيّ والرِسالة والإنجيل، تشكِّلُ جميعُها نسيجًا إلهيًّا حُبِكَ بالروح القدس، لتقول لنا قولًا واحدًا: العذراءُ تَدخُلُ الهيكلَ الحجريّ، لِتُصبِحَ أمّ الهيكَلِ الإلهيّ – اللحميّ: يسوع المخلِّص.

كذلك تُظهِرُ أيقونَةُ هذا العيد مَشهدًا مُزدحِمًا بالعناصِر البشريّة التي ذُكِرت أعلاه، ولكن دون أيّ جَلبَةٍ أو صِياح، لا بل يَلُفُّها صَمتٌ إلهيٌ مليءٌ بالصَّلاة وتمجيد الخالق. كذلك نرى في أعلى الأيقونة مريمَ العذراء جالِسة، وملاكًا يَجلِبُ لها قُوتًا مِن السماء. فإنّها كانت تغتذي بواسطة الملائكة!.

البِناءُ الهَندسيُّ في هَذه الأيقونَة هُو كِنايةُ عن كنيسة يَعلوها صَليب، وكذلك الأمر حيثُ تَجلِس العذراء. رغمَ أنَّ الحدثَ يَجري في الهيكلِ اليهوديّ. فهذا مُفادُه أن كلّ ما يذكره العهدُ القديم مِن نبوءات، وخيمةِ الاجتماع، حيث كان الرّب يَحضرُ ويجتمعُ مع موسى بين الكاروبَين[2] على غِطاء تابوت العهد، ومِن ثمَّ الهيكل حيثُ وُضِعَ فيه هذا التابوت داخل قُدس الأقداس وحيث دخلت مريم، كان هذا كلّه رمزًا لتجسِّد الرَّبّ الذي سيولد مِن أحشائها. لِهذا أصبحَ هيكلُ أورشليم في الأيقونة كنيسةً نأتي ونتناول فيها القُدُسات، جسد ودم الرَّب الكريمَين، الغِذاء الأوّل لِلمؤمن.

دخَلت مريم إلى الهيكل لتتربّى فيه. وهذه دعوة لنا لنحوِّلَ بيوتَنا إلى هيكلٍ لله، يتربّى فيه أولادُنا على كلمة الله الحيّة. هذا حقًا ما ينقص عالمَنا اليوم. فالتطوّرُ التكنولوجيّ لا يأخذ مكان تربية الإنجيل مهما تقدّم. وقد نشأت والدة الإله هناك على "الكلمة" الإلهيّ، الذي عادت وحملته في أحشائها الطاهرة، لتعلِّمنا أنَّ العاقرَ هو الذي لا يَحمُل في أحشاء روحه وأعماقِ قَلبِه الرَّب يسوع.

عَبَرَت مريمُ أقسامَ الهيكل الثلاثة: الرَّدْهَة الخارجِيّة (العُلام)، والقُدْسُ حيث تُقام الصلوات، وقُدْسُ الأَقْدَاسِ موضِعُ تابوت الشهادة، وهو غُرفة مُظلِمَة خَلفَ سِتار، لا ضوء فيه، باستثناء ضوء خافت جدًا يأتي مِن الشمعدان الموجود في القُدْس. فأقسام الهيكل الثلاثة قد شَبَّهَها الآباءُ القدِّيسون بثلاث مراحل في حياتنا مع المسيح: التنقية أو التطهير، والاستنارة، والتألّه.

إضافة إلى ذلك أنَّ الهيكلَ كان مبنيًّا نحو الشرق باتجاه جنّةِ عَدن بحسب اعتقاد اليهود. وكذلك كَنائسنا وهياكلها فهي مُتَّجِهة نحو الشرق. لأنَّه بالنسبة إلينا، المَسيح هو مَشرِق الّمَشارِق والشَّمْس التي لا تغيب. هذا تمامًا ما يَطلبه الكاهنُ أثناء المَعْمُودِيّة مِن العَرَّابَين أن يتّجها نَحوَ الشَّرْق لَيعَتَرِفا بِالمَسيح إلهًا ومُخلّصًا. فالربُّ يسوع هو نُورُنا وجنَّتُنا، وقد ألغى كلَّ مسافةٍ بينَ السَّماء والأرض.

نعم، نَحن في هذا العيد نَتوَجَّه مَع السيّدة العذراء نَحوَ المسيح الذي يُضيء حياتَنا كلّها، ويُبَدِّد من قلوبنا كلَّ ظُلمَة وسَواد.

نَدخُل مَع مريم العذراء ونُشاهِدُ مِن خِلالِ بَصيرتنا الروحيّة كيفَ يُفتحُ لها بابُ الهيكل الكبير، ومِن ثُمَّ يُزاحُ من أمامِها السِتار الذي يَفصُلُ القُدْس عن قُدس الأقداس حيث لا يَدخُل أحدٌ إلّا رئيس الكهنة اليهوديّ مرّةً واحدِةً في السَّنة، في اليوم المُسمّى "يوم كيبور" أي يوم الغفران، حيثُ يَقوم بأخذ دم الثيران التي قُدِّمَت كمُحرَقة، ويَرشُها، بالنيابة عن كلِّ الشعب اليهودي، للتكفير عن خطاياه هو، وخطايا الشعب الذي يُمَثّل. فكأنَّهم بذلك دخلوا برمّتهم معه والتقوا بالرَّب.

الأمرُ نَفسُه يحصل مع العذراء، التي بعبورها مِن العالم الخارجي إلى العُمْق، إلى العالَم الإلهيّ، تُدخِلُنا مَعها لِنَصيرَ هيكلًا للروح القدس، فيولدَ المسيحُ فينا، لِنَلِدَه للآخرين.

كل شيء في هذا العيد جميل، فهو يترجم أمرَين:

1-التدبير الخلاصيّ. نقرأ هذا العيد على ضوء العهد الجديد: فالداخلة إلى الهيكل الحجري ستصير أمّ الهيكل الحقيقي، ألا وهو طفلها الإلهيّ الذي سيدخل عالَمَنا الأرضيّ ليرفعنا إلى السّماويّ. جَمالٌ ما بعده جَمال!.

2-جمالُ سيرة مريم الطاهرة. يقول داود النبي عنها في سِفر المزامير: "جُعِلَتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ بِذَهَبِ أُوفِيرٍ. اِسْمَعِي يَا بِنْتُ وَانْظُرِي، وَأَمِيلِي أُذُنَكِ، وَانْسَيْ شَعْبَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ، فَيَشْتَهِيَ الْمَلِكُ حُسْنَكِ، لأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُكِ فَاسْجُدِي لَهُ"(مز ٩٠:٤٥-١١).

شوقُ كنيستِنا إلى هذا الجمال الإلهيّ، وكذلك توقُها لِأَن تجعَلَنا نلتمِسُ هذا الجمال والبَهاء، يَجعَلُها تبدأ بترتيل (كاطافاسيات) هذا العيد ابتِداءً مِن اليوم الثامن مِن هذا الشهر، الذي نعيّد فيه عيدًا جامعًا لرئيسيّ الملائكة ميخائيل وغفرائيل (جبرائيل) وسائر الطغمات الملائكيّة. وكأنه بذلك يَحتَفِلُ العالَم السماويّ والأرضيّ معًا بهذا العيد. فالجميع يُهلّل طربًا ويُسَبِّح التنازلَ الإلهيّ للخالق، الذي سيتجسد في أحشاءِ مريم العذراء. وهنا تحديدًا قِمّة الجمال، إذ إنّنا نرتّلُ، في يومِ عيد دخول السيّدة العذراء إلى الهيكل، (كاطافاسيّات) عيد الميلاد المجيد.

لِنقرأ هنا ما كتبه تراسيوس (ق٨) بطريرك القسطنطينية عن هذا العيد[3]:" نحن شعب الله الذين نحتفل بتقديم العذراء إلى الهيكل، بروح نقيّة، وشفاه طاهرة، نرفع ترانيم رنّانة مبجِّلين هذا العيد المليء بالفرح بوجود الملائكة".

خلاصة، لنا أن نفرحَ بهذا العيد بقلبٍ عاشقٍ عُذريّ، لأنَّ العِفَّة هي عِفّةُ القلب، وهذا لا يتحقق إلّا بالتَّوْبَة الصادقة، حينئذٍ يكون لنا "النصيب الصالح"، كما يقول إنجيل هذا العيد.

إلى الرَّب نَطلُب.

[1]. "لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي." (لوقا١: ٤٨).

[2]. "وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ، مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ، بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ." (خروج ٢٢:٢٥).

[3]. تاراسيوس القسطنطينية، عظة تقديم مريم في الهيكل. كان أيضًا مدافعًا عن الأيقونات لا يَكُلُّ.