"أفعل كلّ ما بوسعي لمنع تصعيدٍ يؤدّي إلى حربٍ عالمية ثالثة، ويجب ألاّ تكون هناك حرب نووية" هو أوّل ما تلفّظ به بوريس بستوريوس، وزير الدفاع الإلماني الجديد، متململاً بعد إلحاحٍ أميركي وأوروبي بإرسال الدبابة التي تُعيد إلمانيا إلى حدود روسيّا بعد ثمانية عقود.

ويقفز سؤآل:

هل جعلت الأسلحة النووية العالم أقلّ نزوعاً نحو الحروب، أم أنّها تُضاعف شراستها لتظهر وكأنّها سبحة خطيرة بين أصابع القادة الكبار ؟

في الجواب الأوّل، أستعيد قول "روبرت أونبهايمر" ( 1904-1967) أب القنبلة النووية" بعد صنعها: Now I am become Death, the destroyer of the world"، أي"الآن، أصبحت أنا الموت مدمر العالم". صحّ قوله بالقنبلة النووية التي أسقطتها أميركا فوق هيروشيما (3 آب 1945) ودفعت البشرية بلحظة ما تكبّدته من ضحايا في الحرب العالمية. قفز الرعب البشري بعدها متجاوزاً الأمم ليسكن تحت طاولات المنظمات الدولية المستديرة وحولها التي فشلت ولم تتهشّم، لكنّ الدول النووية خزّنت 22 ألف رأس نووي وكلّ رأسٍ خزّن 33 ضعفاً لقنبلة هيروشيما.

في الجواب الثاني، تتفاقم التهديدات النووية التي تُطلق عبر شمّاعة الحروب الأوكرانية الروسية وينخرط فيها العالم بصفتها الحرب العالمية الثالثة. لم تكن الروسيا (بأل التعريف والألف) تبدو نائمة أو تُرضي خاطر الرئيس بوتين بعد سقوط الإتّحاد السوفياتي الذي يستعيد لملمته، اليوم بعدما تقدّم مستعيداً شيئاً من عظمته الدوليّة من سوريا (التي تبدو بالألف أيضاً لا بالتاء المربوطة) مقابل تركيّا الدوّارة بحثاً عن الإرث الإمبراطوري.

هكذا تتواتر المشاهد الدامية الهائلة رعباً من فلتان حبل الردع للسبحة النووية.

لماذا؟

لأنّ روسيّا حسرت، أخيراً، عن تفاصيل ترسانتها النووية فجاء أنّها تمتلك أكبر مخزون نووي في العالم قوامه 5977 رأس حربي ، بينها 977 تستطيع تسوية مدنٍ بالأرض ومحوها عن الخرائط، وقدّمت أسماءها: صاروخ "سارمات" الذي يصل مداه إلى 11000 ميل، و"ياريس" إلى 7500 ويصعب تعقبهما، إلى أسلحة نووية تكتيكيّة تقتل أكبرعددٍ من الجنود،إلى صاروخ "كينزال" الذي يُطلق من الطائرة وتفوق سرعته سرعة الصوت ب 12 ضعفاً، ثمّ الغوّاصة "بوسايدون" التي تتخفّى تحت الماء لسنوات قبل أمر إطلاق قذائفها المساوية 2 ميغا طن بما يتجاوز إنفجار هيروشيما ب 130 مرّة. يبدو بوتين متأزماً لهذا التغوّل الغربي نحو انتزاع بقايا عظمته. وهنا الخوف من الآتي عبر شفاه زعماء العالم ووسائل الإعلام.

تفتّقت العبقريات الرمادية إذن، في هذا العصر، عن أسلحة تتجاوز الأهوال النووية التي دمغت ذاكرتنا البشرية، لكنها أسلحة توازنٍ كما أشيع، تحفظ مكانات الدول ويستعصي إستعمالها بخفّة، لكنّ مستقبل البشرية يبقى مهدّداً أمام لحظة جنون تضغط على 7 مفاتيح موزّعة على 7 مرجعيات عسكرية الوقت الخاطف الذي يستدعي التريّث والهدوء ويبقى النووي بلحظة سلاحاً للتهديد لا للإستعمال. قد يُفسّر هذا التطور الهائل في تقنيات النووي كتعويض عن غضب العظمة عند العجز الذي يكابده القادة الكبار وهم في أسرّتهم أو في اللحظات الحرجة والتحدّيات المستدعية لقنبلة نووية. هذا يكفي...

وهنا تأريخ مختصر في "السبحة النووية":

الدولة الأولى التي امتلكت السلاح النووي كانت أميركا. اختبرت تفجيرها الأوّل في صحراء"نيومكسيكو"(16 تموز/يوليو 1945) ثمّ ضد اليابان ( 6 و 9 آب/ أغسطس 1945). حاولت احتكاره قانونياً في الأمم المتحدة عبر مشروع "برنار باروخ"، لكن الإتحاد السوفياتي رفض بشكلٍ قاطع لكنّه امتلك بدوره سلاحه النووي في 1949، واستخدمه في خطواته نحو الفضاء ( 1957) بصاروخ حمل "سبوتنيك" أول قمر صناعي.

وقع الرعب النووي يومها في العالم، وكرّت الدول لتُدخل أعناقها السبحة النووية:

بريطانيا (1952)، فرنسا(1960)، الصين(1964). تمّ عقد "العظمة" الماحقة بين الدول الخمسة الظافرة في الحرب العالمية الثانية بامتلاكها حق النقض أو "الفيتو" الدولي.

صعدت باكستان (1974) سلّم البحث النووي، وتبعتها الهند تحقيقاً للتوازن في القوة معها بعد صراعهما الطويل الذي استمرّ حتى ال(1998) حيث قامتا بتجاربهما النووية رسمياً ، وبقيتا خارج النادي النووي أو خيط السبحة وبإلحاح مشترك بينهما طالب بنزع شاملٍ للسلاح النووي وشهواته من دول العالم. شاب المناخ الدولي غموض نووي بعد ذلك، عندما امتلكت إسرائيل القنبلة النووية المشوبة أبداً بالغموض الحائر، ومثلها وصلت جنوب أفريقيا إلى النادي لكنّها تراجعت وتخلّت عن برنامجها النووي ومثلها فعلت البرازيل والأرجنتين.

الحقيقة أنّ الشهوة النووية طغت على معظم الدول المسكونة برعب هيروشيما وناكازاكي آنذاك، لكنها المحكومة بتكاليفها الباهظة المتجاوزة لإمكانيات الدول والخاضعة لضغوطات أمنية وسياسية عُظمى ومعقّدة جدّاً.

أعلنت اليابان (1993) عن إمكانية بلوغ برنامجها نضجه النووي خشية قيام قوة كورية نووية موحّدة في وجهها، والمقصود خصوصاً كوريا الشمالية التي عادت لتظهر دولة نووية متقدّمة في "محور الشر" ومتحدّية بصورايخها أميركا والعالم قاطبةً بعدما أحرقها الأميركيون في الخمسينيات لكنها عادت جنّة الله على الأرض مغمّسة بالخضرة ولا يرى الزائر لون التراب فيها. لقد زرتها برفقة زوجتي على أيّام الرئيس المحبوب كيم إيل سونغ. ولهذا نص ممتع قادم.

كانت مكسيكو عاصمة المكسيك، الأولى التي تمّ فيها توقيع 14 دولة على معاهدة بتحريم السلاح النووي في أميركا اللاتينية، وبوشر بتنفيذها (25 كانون الثاني1969). وبعد عقدٍ من المفاوضات الصعبة في الأمم المتحدة، تمّ توقيع 189 دولة على معاهدة المنع والحدّ من إنتاج الأسلحة النووية أو المساعدة على إنتاجها أو الحصول عليها أونقلها وانتشارها (1 تموز 1968 ) وبوشر بتنفيذها في 5 آذار 1970)، وأوكلت هيئة الأمم، منقادة لإرادة النادي الدولي الخُماسي مهمة تنفيذ المعاهدة الى الوكالة الدولية للطاقة الذريّة إلاّ إذا كان الأمر محصوراً فقط بالأغراض السلمية والعلمية والتنموية للدول.

أُعلن الفضاء الخارجي بعد ذلك، منطقة خالية من النووي وفقاً لمعاهدة دولية (تشرين الأول1967) تحكم أنشطتها مباديء عمليات اكتشاف الفضاء بما فيه القمر والأجرام السماوية الأخرى، وتسري المباديء نفسها على قعر الأرض وأعماق البحار والمحيطات ( معاهدة 18 أيار 1972).

أزال وزير الإستخبارات دان ميرور الغموض الإسرائيلي النووي خلال القمة النووية (12-13 نيسان 2010) بإعلانه عن مفاعلين في النقب جنوب اسرائيل هما "ديمونا" و"ناحال شوريك" وباتت إيران اليوم الدولة الوحيدة المُقيمة في عين العالم ويتصدر ملفها النووي اهتمام قادة العالم وهواجسهم حول الطاولات المستديرة الضيّقة أو الموسّعة.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه في لبنان.

عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات البرلمانية في لبنان.