صحيح أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري أرجأ اجتماع هيئة مكتب المجلس الذي كان مقرَّرًا الإثنين إلى موعدٍ يحدَّد لاحقًا، إلا أنّ المعطيات السياسية تؤكد أنّ الجلسة التشريعية التي يكثر الحديث عنها باتت "على النار"، وأنّ جهودًا تُبذَل على أكثر من مستوى حتى لا تلاقي "مصير" سابقتها، التي "طارت" بضربة "الميثاقية" القاضية، و"طار" معها القانون الذي كان يفترض أن يفضي إلى التمديد للمدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.

ورغم أنّ معظم القوى التي رفعت سلاح "المقاطعة" في وجه الجلسة التشريعية السابقة لم تعدّل من حيث المبدأ في موقفها، المستند إلى قناعة دستورية تنصّ على عدم جواز قيام مجلس النواب بأيّ دور كان قبل انتخاب رئيس للجمهورية خلفًا للرئيس السابق ميشال عون، الذي انتهت ولايته منذ أواخر تشرين الأول الماضي، من دون أن يسلّم صلاحياته لمن يخلفه، إلا أنّ رئيس البرلمان يوحي وكأن الجلسة أصبحت "تحصيلاً حاصلاً"، وأنها ستعقد عاجلاً أم آجلاً.

يقول العارفون إنّ أسبابًا عدّة تجعل بري مقتنعًا بذلك، استنادًا إلى جدول أعمال الجلسة المفترضة، وقوامه بنود ضرورية وملحّة ولا تحتمل التأجيل تحت أيّ ظرف من الظروف، وعلى رأسها وجوب حسم ملف الانتخابات البلدية والاختيارية، المفترضة في أيار المقبل، والتي يشوبها الغموض غير البنّاء، إضافة إلى الأزمة المالية المتفاقمة، والتي زادتها تعقيدًا تصريحات صندوق النقد الدولي قبل أيام، حين وصف الوضع في لبنان بأنّه "شديد الخطورة".

ثمّة من يعتقد أنّ "رهان" بري يبقى على "التيار الوطني الحر" ورئيسه الوزير السابق جبران باسيل الذي يبدي "ليونة" أكثر من "شركائه" في المقاطعة، وهو كرّر الأسبوع الماضي موقفًا يمكن أن يوصَف بـ"المَرِن"، لجهة عدم رفضه "المطلق" لالتئام مجلس النواب، إن توافرت بعض "الشروط"، فهل يؤمّن "التيار" ميثاقية الجلسة التشريعية رغم كلّ شيء؟ وماذا لو لم يفعل؟ هل تعقد الجلسة في كلّ الأحوال، ولو من دون "التيار" و"القوات"؟!.

بالنسبة إلى المحسوبين على "التيار الوطني الحر"، فإنّ الموقف من الجلسة التشريعية واضح ولا يحتمل اللبس، وهو مرهون بـ"أجندة" مثل هذه الجلسة، وما يمكن أن يتضمّنه جدول أعمالها من بنود وملفات، وهم يحيلون السائلين إلى ما صدر عن المجلس السياسي في "التيار" قبل أيام، لجهة التأكيد على رفض التشريع بالمطلق في ظلّ الفراغ الرئاسي، ولكن القبول به في حال كانت الجلسة "محصورة بالأمور الطارئة والضرورية والمستعجلة".

ورغم أنّ هذه العبارة أوحت بالكثير من المرونة والليونة، وجعلت البعض يحسم سلفًا بأنّ "التيار" أعطى الضوء الأخضر للمضيّ بالتحضير للجلسة التشريعية، بل فتح الباب أمام التئامها في أقرب وقت ممكن، فإنّ المحسوبين على "التيار" ينفون ذلك، ويذكّرون بما حصل في "المحاولة الأولى" قبل أسابيع، حين كان "التيار" جاهزًا للمشاركة، وفق العناوين نفسها، لكنّ رئيس المجلس أصرّ على وضع جدول أعمال "فضفاض" أفرغ الجلسة من مضمونها.

من هنا، يشدّد هؤلاء على أنّ جدول أعمال أيّ جلسة يشارك فيها "التيار" يجب أن يكون مدروسًا بعناية، بحيث لا يسمح لأيّ التباس، ولا حتى على طريقة وضع الملفات الضرورية في الصدارة، والأقلّ أهمية في مرتبة متأخّرة، في إيحاء بإمكانية تطيير النصاب في أيّ وقت، باعتبار أنّ مثل هذه الاستراتيجية أشبه بـ"الضحك على الذقون"، وهي لن تنطلي على "التيار" الذي يرفض تأمين "الغطاء" لأيّ جلسة لا تأخذ الفراغ الرئاسي بعين الاعتبار.

وإذا كان التحضير للجلسة التشريعية يتمّ بالتوازي مع الإعداد للخلوة المسيحية المرتقبة التي دعت إليها بكركي تحت عنوان "اللقاء الوجداني"، في محاولة لجمع النواب المسيحيين على "يوم صلاة" بعد فشل جمعهم في السياسة، فإنّ ما يخشى منه المراهنون على حضور "التيار" في مجلس النواب، يكمن في عامل "الشعبوية" الذي لعب دورًا في "تصلّب" موقفه في المرّة الأولى، وهو ما يمكن أن يتكرّر اليوم، إذا ما تمّ تحديد موعد للجلسة التشريعية.

لكن، في المقابل، يعتقد المؤيّدون لمنطق الجلسة التشريعية أنّ الأسباب "الموجبة" التي تدفع نحو انعقادها لن تسمح بمثل هذه "الشعبوية"، خصوصًا أنّ الشروط التي يضعها "التيار" من أجل المشاركة أكثر من متوافرة، ولا سيما في ظلّ وجود استحقاق داهم هو الانتخابات البلدية والاختيارية، ما عاد ممكنًا "تجاهله" بكلّ بساطة، خصوصًا مع اقتراب موعد دعوة الهيئات الناخبة وفق الدستور، والتي يقول وزير الداخلية إنّه سيوجّهها في وقتها.

ويقول هؤلاء إنّ الجلسة التشريعية "واجبة" لحسم ملف الانتخابات البلدية، إما لتأمين التمويل اللازم لإنجاز هذه الانتخابات، التي تقول الحكومة إنّها جاهزة "لوجستيًا" لإنجازها، لكنّها تحتاج إلى إقرار الاعتمادات اللازمة، طالما أنّ الموازنة لم تأتِ على ذكرها، وإما للتمديد للمجالس البلدية الحالية، تفاديًا لتمدّد حالة "الفراغ" لتشمل هذه المجالس، بما قد يخلق حالة "إرباك" غير مسبوقة في البلد، من شأنها أن تؤثّر على معاملات المواطنين اليومية.

ورغم الترويج لفكرة استمرار البلديات في هذه الحالة على رأس مهامها، ريثما يصدر قانون عن مجلس النواب في وقت لاحق "بمفعول رجعي"، علمًا أنّ بعض البلديات مشلولة أصلاً فإنّ مثل هذا السيناريو لا يبدو محبّذًا ولا قانونيًا، ما قد يعرّض أي قرارات تتخذها البلديات للطعن، شأنه شأن الدعوات التي يوجّهها البعض لصرف الاعتمادات وفق القاعدة الإثني عشرية، خلافًا للقانون، ما يجعل الجلسة التشريعية وفق أصحاب هذا الرأي الحلّ الوحيد.

وإلى استحقاق الانتخابات البلدية "الداهم"، ثمّة بنود أخرى لا تقلّ "إلحاحًا" تفترض التعجيل في عقد الجلسة التشريعية، من بينها مثلاً ضرورة تعديل قانون النقد والتسليف من أجل السماح بطباعة أوراق نقدية جديدة، خصوصًا بعدما أصبح المواطنون مضطرين لحمل "حقائب نقود" معهم عند التبضّع، كترجمة لتخطّي سعر الدولار الواحد، قيمة مئة ألف ليرة لبنانية، وهي العملة الورقة الأعلى الموجودة في الأسواق بموجب القانون حاليًا.

ويُضاف إلى ما سبق وجوب إقرار التشريعات المتعلقة بالإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي والتي ما عادت تحتمل المماطلة من أجل الإفراج عن "حزمة الإنقاذ" الموعودة، وفق ما أوحى رئيس بعثة الصندوق الذي زار لبنان الأسبوع الماضي، وختم زيارته بتصريحات قرع من خلالها جرس الإنذار، بأنّ الوضع في غاية الخطوة، بل إنّ الأزمة شديدة التعقيد وقد تصبح "بلا نهاية" إذا استمرّ التعاطي معها كما هو، وأنّ التقدم المحرز "بطيء جدًا".

بين الانتخابات البلدية "الضائعة" والأزمة المالية التي تتفاقم بوتيرة "جنونية"، يبدو مسلّمًا به أنّ الوضع في البلد بات "شديد الخطورة"، وضع لن تغيّر الجلسة التشريعية الكثير في توصيفه، ولو تحوّلت إلى "قضية القضايا" في الأيام الأخيرة في ظلّ الانقسام بشأنها. فالمطلوب، أن ينجز مجلس النواب مسؤولياته، وينتخب رئيسًا للجمهورية، عسى هذه الخطوة، التي لن تكون بدورها حلاً سحريًا، تفتح الباب على الأقلّ أمام معالجات من نوع آخر مع انتظام عمل المؤسسات.