في العَجَبِ، لبنانُ حَجَرٌ. صَخرٌ.

وَفي الدَهشَةِ هوَ الصَخرُ الَذي فيهِ روحٌ.

هوَ لبنانُ أكثَرُ مِن دَفقٍ مَعرِفيٍّ، وأكبَرُ مِن قِسطِ حَقيقَةٍ في تَصَوُّراتٍ دينِيَّةٍ. إن آمَنتَ بِهِ عَلى ما هوِ عَلَيهِ، ثَبَتَّ وَبِقوَّةٍ وَسطَ التَحَوُّلاتِ الهَدَّامَةِ الضاغِطَةِ لِتَغيِّيرِ حَقيقَتِهِ بِفِعلِ قُدُراتٍ هائِلَةٍ لِلإبادَةِ والإفناءِ، وَسطَ إنهيارِ اليَقيَناتِ.

أوَّلُ اليَقينِ، أن تَكونَ السُلطَةُ في خِدمَةِ القانونِ، وأن يُصبِحَ الفَردُ عُضواً في دَولَتِهِ، فيها يُحَقِّقُ كَمالَ شَخصِيَّتِهِ وَتَرَقِّيَ إختِبارِ حُرِّيَتِهِ. في هَذِهِ الصيغَةِ التَبادُلِيَّةِ تِتِآلفُ التَصَوُّراتُ العَقلِيَّةُ مَعَ التَطَلُّعاتِ المِعيارِيَّةِ لإنتاجِ وَعيٍ، بِهِ تَستَقيمُ الموازَنَةُ بَينَ الحَقِّ والواجِبِ. لَيسَتِ السُلطَةُ إذاً لِلمُنافِقينَ وَلا لِلغاصِبينَ بِقُوَّةِ الفَسادِ والإفسادِ، أيّ بِعُنصُرِيَّةِ الطُغيانِ الَتي داسَت كَرامَةَ الإنسانِ إذ جَعَلَتهُ لا عَبداً لِشَراهَةِ أهوائِها فَحَسبَ بَل نِتاجاً مِنها وَلَها، مُستَوجِبٌ الإزاحَةَ مَتى إستُنفِرَ لِلتَفَلُّتِ مِنها.

هَلِ الإنتِماءُ الدينيُّ المُجَرَّدُ مِن إعتِباراتِ الفِعلِ، سُلطَةٌ مُشفِيَةٌ مُنقِذَةٌ لِوَقفِ هَذا الهَدمِ بِلبنانَ وإنسانِهِ لإلغائِهِما مَعاً وإستِبدالِهِما بِلبنانَ آخَرٍ لا حَياةَ فيهِ وإنسانٍ آخَرٍ لا حَياةَ لَهُ؟ وَتالياً، ما هي الميكانيزماتُ الفاعِلَةُ لِصَدِّ هَذا التَفَلُّتِ وَرَدعِهِ؟ إنَّ الحاجَةَ مُلِّحَةٌ الَيومَ لإكمالِ ما صاغَهُ لبنانُ في إعلانِ حُقوقِ الإنسانِ بالإعلانِ عَن واجِباتِ الإنسانِ لِتِثبيثِ أحَقِيَّةِ وجودِهِ. وفي ذَلِكَ إقرارٌ هوَ أكثَرُ مِن إعتِرافٍ بإنَّ لِلإنسانِ وَلِلجَماعَةِ الدينِيَّةِ أو الثَقافِيَّةِ أو الحَضارِيَّةِ الَتي يَنتَمي إلَيها مَشروعِيَّةُ الوجودِ: ما يُقصي إعتِباطِيَّةَ تَسَلُّطِ مَن يَدَّعيَ القوَّةَ وَيَستَدعيَ العَدَدَ عَلى كَرامَةِ مَن يَتَصَوَّرُهُ أقَلِيَّةً.

في هَذا الوقوفِ بَينَ العَجَبِ والدَهشَةِ، يُشيدُ لبنانُ نِظامَ السَماءِ (أيّ كَمالاتِ الفِعلِ الإلَهيِّ) عَلى أرضٍ تَنطَوي عَلى فَضاءاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وإن كانَت مَطبوعَةً بِتَشَنُّجاتٍ إستَطرَدَت بالغُرورِ الإنسانِيِّ حَدَّ إحتِكارِ ضَبطِ مآلِ التاريخِ. هُنا، عَلى هَذِهِ الأرضِ-الصَخرِ، حَيثُ يَتآلَفُ التَجديدُ مَعَ الثوابِتِ، فَيَتَخَلَّصُ العَقلُ مِن نَفَقِ الأساطيرِ وَينَفَتِحُ عَلى سُموِّ الألوهَةِ، يَتَرَقَّى مُرتَكَزُ الكَيانِ لِيَبلُغَ المُطلَقَ (أيّ كمالاتِ الفِعلِ الإنسانِيِّ). وَهَذا لا يَتِمُّ بِتَفريغِ الإيمانِ مِن قيمَتِهِ، ولا بالإنزِلاقِ بِهِ نَحوَ التَحَجُّرِ صانِعِ الصَنَمِيَّاتِ والعَصَبِيَّاتِ المُتعامِيَةِ حَدَّ العَبَثِيَّةِ، بَل بَتَطهيرِ العَقلِ والإيمانِ مَعاً... وإعادَةِ التَكوينِ عَبرَ الإنصاتِ والتَصالُحِ المُتبادَلَينِ.

التِهِيؤُ لِلزَرعِ

أفي الأرضُ-الصِخرُ يَنبُتُ زَرعٌ لِلعالَمِ، بَينَ الوَحي الإلَهيِّ وَدَعامَةِ الإقامَة ِالإنسانِيَّةِ؟.

هُنا عَلى هَذا الصَخرِ-الأرضِ، تَرتَكِزُ إنطِلاقَةُ الثِمارِ عَلى زَرعٍ تَهيئَتُهُ تَتَجَلَّى بَينَ الإِستِباقِ الإلَهيِّ والعِنايَةِ الإنسانِيَّةِ بِرَهَفٍ وافٍ يَستَزيدُ تَماسُكاً بِقُوَّتِهِ وَيَستَقويَ تَماسُكاً بِوِحدَتِهِ.

هُنا عَلى هَذا الصَخرِ-الأرضِ، جَهالَةُ الصَليبَ تُكسِبُ كُلَّ تَهيئَةٍ لِلزَرعِ مِعناها الأَعمَقَ كَعَبقَرِيَّةِ التآخيَ بَينَ نورِ العَقلِ الإلَهيِّ وَحَقائِقَ العَقلِ الإنسانِيِّ. وَهَذا لا يَتَوَقَّفُ عَلى البِناءِ السياسِيِّ لِنِظامٍ مُعَيَّنٍ بَل يَتَخَطَّاهُ الى ما بَعدَ المُجتَمَعِ المَدَنِيِّ.

هُنا عَلى هَذا الصَخرِ-الأرضِ، بُلوغُ تَهيئَةِ الزَرعِ جَنى الثِمارِ لا يَقومُ عَلى فَرزِ المُهتَديَ مِنَ الضالِّ وَلا المُصيبَ مِنَ المُخطِىءِ، بَل عَلى تَفَتُّحِ طريقِ التَحَوُّلِ لِكُلِّ أحَدٍ مِنَ المَفقودِ الى منطِقِ الفائِقِ... لِبِناءِ السَلامِ المُتَناغِمِ بأبعادِ تَنَوُّعِهِ الروحِيَّةِ والعَقلِيَّةِ والجَسَدانِيَّةِ.

هَذا أبعَدُ مِنَ السُباتِ في العِلمانِيَّةِ. وَهَذا أبعَدُ مِنَ الغَورِ في الدينِيَّةِ. وَجَدَلِيَّتِهِما.

أَهيَ رؤيَةٌ ما بَعدُ ميتافيزيقيَّةٍ، وَما بَعدُ وجودِيَّةٍ؟.

بَينَ الدَهشَةِ والعَجَبِ، لبنانُ-الصَخرُ-المَلاذُ روحُ العالَمِ يَكونُ... أو لا يَكونُ.