إسمُ مدينة بابِلَ Βαβυλών / Babylon يَعني "بابَ الآلِهَة" أو "بابَ الله". وقد لُقِّبَت بـِ "مَركزِ الحَياة" و"المدينَةِ الطَيِّبَة" أو "الفردَوس"، كون "جَنَّةَ عَدن" تَقعُ فيها. كما أنّها دُعِيَت بـِ "بَهَاءِ الْمَمَالِكِ وَزِينَةِ فَخْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ". بالرغم من ذلك، يذكر الكتاب المقدّس أنّها مدينة الفساد بامتياز، وذَلك نتيجةَ حَدَثَين أَساسِيّين:

الحَدثُ الأَوَّل في العهدِ القَديم. نَقرأ فيه ما يُعرَفُ بـِ "برجِ بابِل"، حيثُ انتفَخَ أبناءُ هذهِ المدينَة بِتكبُّرِهم، فَقرّروا أن يَبنوا لأَنفسِهم "مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ[1]". ويَصنعوا لِذواتِهم اسمًا خالِدًا. فنزَلَ الرّبُّ وبَلبَلَهُم، ثم شَتَّتَهم، لأَنَّ اللهَ يَمقُتُ المُتكبِّرين.

الحَدَثُ الثاني في العهدِ الجَديد. حَيث نقرأُ في سفر الرؤيا عن سُقوطِ "الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ بَابِلُ[2]".

فكانَت تماثِيلُ أَوثانِها تَلمَعُ في كلِّ المدينَة، وكَثُرَ فيها العُهرُ والمَجونُ والانحِراف. وقد تَنَبَّأَ إشعياءُ النَبيُّ عَن سُقوطِها لِكثرَةِ شرورِها، قائلًا: "سَقَطَتْ، سَقَطَتْ بَابِلُ، وَجَمِيعُ تَمَاثِيلِ آلِهَتِهَا الْمَنْحُوتَةِ كَسَّرَهَا إِلَى الأَرْضِ[3]".

هكَذا أصبَحت المدينَةُ رمزًا للشَيطانِ المُنهزِم، ورَمزًا لِكلِّ متكبِّرٍ ومُتشامِخٍ لَم يَتُبْ. فلا عَجَبٌ أَن يكونَ سِفرُ الرُؤيا قد تَكلَّمَ عَليها بإِسهاب.

مِن أبرزِ ما جَاءَ في السِفرِ، صورَتانِ مُتعارِضَتانِ تُمَثِّلانِ لنا دَرسًا كَبيرًا:

نقرأُ في الصورَةِ الأُولى: "بِقَدْرِ مَا مَجَّدَتْ (بابل) نَفْسَهَا وَتَنَعَّمَتْ، بِقَدْرِ ذلِكَ أَعْطُوهَا عَذَابًا وَحُزْنًا[4]".

أمّا في الصورةِ الثانِيةِ فَنَقرأ: "اِفْرَحِي لَهَا أَيَّتُهَا السَّمَاءُ وَالرُّسُلُ الْقِدِّيسُونَ وَالأَنْبِيَاءُ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَانَهَا دَيْنُونَتَكُمْ[5]".

كلُّ واحدٍ مِنّا مُعَرَّضٌ أن يَسقطَ في الأُولى. وَلكن إِن تابَ تَوبَةً حقيقيَّة، وَغَيَّرَ مَسلَكَهُ باتِّجاهِ الدَربِ الصَحيحِ والمُستَقيم، الذي هُوَ الرَّبُّ يسوعُ المسيح، حينَئِذٍ يَنضَمُّ إلى الثانِيَة، إِلى قافِلَةِ القدّيسينَ التي لا تَنتَهي.

إذًا الشرط الأساسي يكمن بِفَكِّ كُلِّ ارتباطٍ بالخَطيئة، بِحَيثُ يَقولُ القدّيسُ يوحَنّا الإنجِيليّ، كاتِبُ سِفرِ الرُؤيا: "ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: "اخْرُجُوا مِنْهَا يَا شَعْبِي لِئَلاَّ تَشْتَرِكُوا فِي خَطَايَاهَا، وَلئَلَّا تَأْخُذُوا مِنْ ضَرَبَاتِهَا[6]".

صَوتُ السماءِ يَصرخُ، وَصَوتُ الروحِ القُدُسِ يَهتِفُ دائمًا في أذهانِنا مُنذُ القِدَم[7]، لهذا القِدّيسُ هوَ "التّائِبُ" أَبدًا. إِنَّهُ الذي لا يُشرِكُ بِالله آلِهَةً أُخرى ويَعبُدُها، بَل يَفرزُ نَفسَهُ وَيُخَصِّصُها لَه بالكُلِّيَّةِ. هذا هو مِعنى كَلمَة "قدّيس" في أصلِها الأَراميّ-العِبرِيّ، وَعكسُ ذلكَ يُدعى: "زنًى".

الآلهة الأخرى في حياتنا كثيرة ومتعدّدة، الكذب والشهوة على أنواعها، ومحبّة الأنا، وغيرها.

غَدًا، يَومُ الأحَد، تَختَتِمُ فيه الكَنيسةُ الأرثوذكسيَّة ليتورجيًّا، ما يُسمّى بـ"البَنديكِستارِيون" أيّ "الزَمَن الخَمسينيّ"، الذي بَدأناهُ بِأَحَدِ الفِصحِ المَجيد.

يأتي هذا الأحَد، المُسَمّى بِـ"أحدِ جَميعِ القِدّيسين"، بَعدَ أَحدِ العنصرة مباشرة، أحد حُلولِ الروحِ القُدُس، وذلك أنَّ القِدّيسَ إنسانٌ مُجاهِدٌ بكلِّ ما للكَلِمَةِ من مِعنى، فَهوَ يُحاوِلُ، بكلِّ قوَّتِه، أَن يُفرِغَ ذاتَهُ، وِيَمتَلئَ مِنَ الرّوحِ الإِلهيِّ المُقَدَّس والمُحيي.

لم يَترُكْنا اللهُ يَتامى. فُروحُهُ القُدّوس، "المُعَزّي"، يُؤازِرُنا في جِهِادِنا. وَمِن فَيضِ مَحَبَّتِهِ للبَشَر، تَجَسَّدَ الرَّب ليُخلِّصنا. هذا تَحديدًا ما نُرتِّلُه في سَحَرِ أَحدِ جَميعِ القِدّيسين: "أيُّها المُخلّصُ المُتَحنِّنُ، أَنتَ أَحبَبتَني جِدًّا مَع أَنَّني كُنتُ عَدُوًّا عاصِيًا. أنتَ انحدَرتَ إِلى الأرضِ انحِدارًا مُستَغرَبًا، إِذ لَم تَحتَمِلْ أَن أُهانَ إِلى النِهايَة".

عَودَة إِلى انتِصارِ الحَقِّ وَسقوطِ بابِلَ كَما يَذكُرُهُ سِفرُ الرُؤيا. هُناكَ أَيقونَةٌ رائِعَةٌ للغايَةِ تُمَثِّلُ هَذا الحَدَث، نُشاهِدُ فيها رَئيسَ المَلائِكَةِ ميخائيلَ يَمتَطي حِصانًا، وَيدوسُ بِهِ المَدينةَ الساقِطَة.

عادَةً ما يكونُ وَجهُ ميخائيلَ أَحمَرَ اللَون، وَيَعتَمِرُ على رَأسِهِ تاجًا. وَيُرسَمُ عَلى ظهرِهِ جَناحان، وَكَذلكَ على ظَهرِ حِصانِه.

تُظهِرُهُ الأيقونَةُ كَقائِدٍ[8] chief commander، أَو كَأَميرِ حَربٍ warlord في الأَيقوناتِ السَلافِيَّة.

يَحملُ ميخائيلُ بِيَدِهِ اليُمنى، في هَذهِ الأَيقونَةِ، رمحًا َيطعَنُ بِه الوَحشَ الشِريرَ وَالمَهزوم، الذي هو الشيطان. لون الشيطان في الأيقونة أسود، لأن ليس فيه نور. وله جناحان كونه كان ملاكًا، وسقط لأنّه تكبّر.

كذلك، يَحملُ الملك ميخائيل بِيَدِهِ اليُمنى صليبًا ومِبخَرَةً لِيَنشُرَ في الكَونِ أجمَع عَبَقَ القَداسَة.

أمّا في يَدِهِ اليُسرى، فَيحمِلُ إِنجيلًا، وَبوقًا يَعزِفُ عَلَيهِ أَلحانَ النَصْر. كما نشاهد فَوقَ المَلاكِ ميخائيلَ قَوس قُزَح، إِشارَةً إِلى أَنَّ زَمَنَ طوفانِ الخَطيئَةِ قَد اندَثَرَ أَبَدِيًّا. فَهذا يُذَكِّرُنا بِما حَصلَ أَيضًا في العَهدِ القَديمِ مَع نوح.

أمّا في الزاوِيَة العُليا واليسرى مِن الأَيقونَة، فنُشاهِدُ الربَّ أمامَ المَذبَح، وعَلَيهِ الصَليبَ المُقَدَّس والإِنجيل، وَأَحيانًا الكَأسَ المُقَدَّسَة. فكُلُّ هَذا تَحضيرٌ للدَينونَةِ العامَّة. مِن هنا يُسَمّى هذا المَشهَدُ في الأَيقونَةِ أَيضًا: "التَّحضيرُ[9]" للعرش، بمعنى بدء الدينونة العامة.

فكلمَةُ الإنجيلِ هيَ الفَصْلُ؛ والصليبُ هوَ علامَةُ الظَفَر، الموت والقيامة، ميزان العدل؛ وَأمّا القُدُساتُ فَتُشيرُ إِلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل.

هذا هُوَ الإِطارُ التَصويرِيُّ العام، وهناكَ تَفاصيلٌ تَختَلِفُ بَينَ أَيقونَةٍ وَأُخرى.

خُلاصَة وَعِبرَة: نَحنُ في حَربٍ ضَروسٍ مَع سَيِّدِ هذا العالَم. إِنَّها حَربٌ لا هَوادَة فيها! فالمُنتَصِرُ فيها هوَ المُتَواضِعُ القَلب وَالتائِبُ إِلى وَجهِ اللهِ بِالروحِ القُدُس. هَذا ما يفعَلَهُ القِدّيسونَ الذينَ يستَمَر جِهادُهُم حَتّى الرَمَقِ الأَخيرِ مِن حَياتِهِم.

إِلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. تكوين 4:11

[2]. رؤيا 10:18

[3]. إشعياء 9:21

[4]. رؤيا 7:18

[5]. رؤيا 20:18

[6]. رؤيا 4:18

[7]. "اِعْتَزِلُوا، اعْتَزِلُوا. اخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. لاَ تَمَسُّوا نَجِسًا. اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهَا. تَطَهَّرُوا يَا حَامِلِي آنِيَةِ الرَّبِّ." (إش 52: 11).

[8]. Arkhistrategos – αρχιστρατηγός.

[9]. Etimasia - ἑτοιμασία.