لم تكن من السهولة عودة ​جبران خليل جبران​ الى نيويورك بعد قرابة قرن كامل، وهو الذي اعتاد ان يعيش في ظلال الأرز، وفي "ثوب السكون" حيث "تختبي احلامه"...

ولكن كان لا بد من العودة في زيارة ليلتقي أحفاد أصدقائه، الذين شهدوا على ولادة أديب ورسام عالمي، نشروا كلماته وعباراته، عبر كتب ووريْقات وحبرٍ ومراسيلَ بريدية، فانطلق الى العالم من "غابات الباطون، مدينة الضباب" نيويورك، كما حلا له وصفها، ليحتلّ رفوف المكتبات ويدخل الى بيوت الناس، وصار حديثهم لمدة قرن...

جبران الذي انطلق مع أحلامه عام 1895 الى بوسطن، مدينة الأبجديّة الأولى في إبداعه، صار جسراً عَبَر منه ​لبنان​ الى العالم، وبين الريشة والقلم، عرفَته الشعوب، وعَرف العالم هذا الوطن الصغير، المثقَل بالكآبة والإضطهاد منذ قرون.

في مبنى ​الأمم المتحدة​، حيث الأمم ليست متّحدة، وصَل جبران مع لوحاته، علّه يذكّرهم، ان "أهله ماتوا جوعاً في الأرض التي تدرّ لبناً وعسلاً... وأنهم ماتوا وأكفّهم ممدودة نحو الشرق والغرب وعيونهم محدّقة إلى سواد الفضاء... فهل سمعَت الأمم صراخ ذاك "النبي" الأميركي الذي شغلَ العالم بكتاباته ورسوماته، حتى استقال من السياسة والنضال في سبيل حريّة وطنه، صارخاً في وجه قادة الشرق واوروبا: "لكم لبنانكم ولي لبناني".

بعد هذه الزيارة الأمميّة الأولى، التي نظمتها كل من ​جامعة البلمند​ في لبنان، و​الجامعة اللبنانية الثقافية​ في العالم-مجلس أميركا بالتعاون مع متحف ولجنة جبران في بشرّي، حلّ جبران ضيفاً في معرض آخر في نيويورك حمل عنوان: الجمال الأبهى، في متحف "Drawing center".

احتلت رسوماته الـ80، والمخطوطات الـ30، جدران المتحف الأميركي الشهير في وسط مدينة مانهاتن النيويوركيّة، هذه الرسومات "الرصاصيّة" جسّدت مسيرته الفنّية من بوسطن الى نيويورك خلال قرابة نصف قرن. 34 لوحة منها استُقدمت من متحف جبران في بشرّي، ومجموعة أخرى وصلت الى نيويورك من متحف "سُميّة" في المسكيك، إضافة الى مجموعة صغيرة من رسومات جبران متحف في سافانا-جورجيا في الولايات المحتدة.

هذا العرض لرسومات جبران في Drawing center استغرق التحضير له حوالي السنتين، بعد طلب رسمي قام به المتحف في نيويورك وُجّه الى متحف جبران في بشرّي، حيث يحتضن دير مار سركيس آثاره الأدبيّة والفنّية، وحيث المزار الأول لجبران الذي يعرض كل مقتنياته، وأغراض منزله التي أستُقدمت من نيويورك الى لبنان نهاية عام 1931، عند وصول جثمانه، ليرقد في بشرّي "موطن قلبه" المكلّل بالثلوج، المطرّز بحجارة الدير الذي عاش طفولته، يلهو في أحضان صخوره، قبل ان تلفظه ظروف الهجرة اللبنانية الأولى الى بوسطن، مسرح أحلامه الثاني.

حارس هيكل جبران في بشرّي، مدير المتحف جوزيف جعجع، الذي رافق معارض جبران في نيويورك، أكد ان هذا المعرض الذي افتتح في الثاني من الشهر الجاري ويستمر حتى الثالث من أيلول المقبل، سوف يستقطب أكبر عدد من فناني الرسم ورواد القلم والكتّاب اضافة الى ممثلي المتاحف في نيويورك، ليتعرفوا على أهم كاتب ورسّام مشرقي نسج من أحداث المشرق العربي قصصاً وروايات وفلسفة تختصر قروناً وأزماناً.

حضر المعرض الجبراني عدد كبير من أبناء الجالية اللبنانيّة الى جانب المواطنين الأميركيين وأجانب مقيمين في نيويورك، فتابعوا وصول اللوحات بشغف من الأمم المتحدة حتى المتحف الاميركي.

عودة جبران لن تنتهي في المعرض اليوم، إنما سيكون له نصب تذكاري يحتفل بإزاحة الستار عنه في شهر تشرين الثاني المقبل، في حديقة ​كنيسة​ القديس مرقس، حيث قُرِئَ لأوّل مرة كتاب "النبي"، وهذا النصب من تصميم الفنان البشرّاروي الكبير رودي رحمة.

في الختام، يبقى ان نذكر ان لجنة جبران الوطنية ومتحف جبران في بشرّي، يقومان بتنظيم عدد كبير من المعارض والمحاضرات واحتفالات التكريم الخاصة بمناسبة مئوية كتاب "النبي"، ليس فقط في لبنان، إنما في كل دول العالم، من ​الولايات المتحدة​ مروراً بأوروبا وصولاً وليس آخراً الى البرازيل، حيث ينتظر محبو جبران خليل جبران ان يشاهدوا لوحاته الزيتيّة و"الرصاصيّة" الى جانب أولى مخطوطاته لكتاب "النبي".

الأمم المتحدة-نيويورك