كان يُمكن إعتبار إعداد الموازنة العامّة أمراً عادياً في بلد تستقيم فيه الحياة السياسية، وتعدّ الموازنات المالية ضمن أطرها الزمنية، لكن أن تتكرّر الموازنات على قاعدة الإثني عشرية، ثم تأتي بعدها حكومة، وفي مرحلة تصريف الأعمال، لتُنجزَ موازنة ماليّة، فإنّ ذلك يعدّ إنجازاً لتلك الحكومة، على قاعدة تأمين حُسن سير المؤسسات وبالتالي بقاء منظومة الدولة، مهما كان حجم الملاحظات على ارقام الموازنة وطبيعة موادها.

كان يُمكن لرئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ان يجلس متفرجاً، من دون عناء تنظيم موازنات في زمن صعب، حيث تزايد القوى السياسية على بعضها، وترمي المسؤوليات في كل اتجاه بعيدة عنها. لكن حكومة ميقاتي انجزت الموازنة، وقدّمت رؤيتها لحلول قد تتبدل مساراتها خلال عرضها في المجلس النيابي:

اولاً، تُعتبر الموازنة هي الناظم المالي الطبيعي لسير عمل المؤسسات والإدارات بكل مستوياتها المدنية والعسكرية، وتجنّب البلاد عشوائيات الصرف الاثني العشرية.

ثانياً، تأتي الموازنة المالية رغم حصول انهيار مؤسسات الدولة العامة، وتحلّل الادارات، بسبب الوضع المالي والاقتصادي المأزوم من جهة، وعدم تحمّل القوى السياسية لمسؤولياتها في عملية الانقاذ المُفترض حصولها.

ثالثاً، يؤكد امر اعداد الموازنة ان حكومة تصريف الاعمال، رغم المطبّات السياسية التي تعرقل طريقها، تمضي بعملية تسيير شؤون ومصالح البلد، فلم تتذرع بتصريف ولا بصعوبات تواجه البلد.

رابعاً، لم يعد ممكناً قبول الاستمرارية بذهنيه الموازنات الاثني عشرية لأنّها مخالفة دستورية، بإعتبار ان المادّة 86 من الدستور اجازت للحكومة الإنفاق لتسيير المرافق والإدارات العامة، وبشكل استثنائي يتم اللجوء إليها ضمن شروط، ابرزها أن الإنفاق يحدث وفق هذه القاعدة لشهر كانون الثاني فقط، لا لأشهر وسنة.

بعيداً عن لغة الارقام، حيث تقلّ مساحات الايرادات المالية في الزمن الصعب، مما يفرض على الحكومة التقشّف في الصرف المالي والتشدّد في ايجاد مداخيل للدولة، هناك مؤشرات وطنية يمكن الاستناد اليها لتوصيف التعامل مع اعداد الموازنة:

فلنفترض ان القوى السياسية التي تصرّ على تعطيل عمل المؤسسات، واصلت التمرد على الانتظام العام للدولة، فما هي النتيجة؟ لا اجتماعات للحكومة ولا جلسات للمجلس النيابي، وبالتالي لا موازنات مالية، يعني استكمال حلقات التعطيل. ستجد هذه القوى نفسها تتجه نحو نحر هيكلية الدولة. كيف يمكن طلب التعامل مع حاجات الوزارات والادارات وخدمات المواطنين من دون تحديد الاطر اللازمة للصرف والتحصيل والجباية وتنفيذ واجبات الدولة تجاه المواطن؟ يمكن اتخاذ وزارة الطاقة والمياه مثالاً حيّاً، عندما تطالب بصرف اموال لقاء شراء الفيول او تأمين خدمات تشغيل شركة الكهرباء. لا يحقّ عندها الشكوى من عدم الصرف المالي، بغياب وزير الطاقة والمياه عن جلسات مجلس الوزراء الذي يطالب الحكومة بإقرار او تسييل الصرف المالي. وهكذا دواليك ينطبق الامر على كل اتجاهات في البلد، في زمن تعطيل يساهم في طعن مؤسسات الدولة.

يتخذّ معارضو جلسات الحكومة او المجلس النيابي او الرافضين لاقرار الموازنة عنوان عدم انتخاب رئيس للجمهورية، لكن الدولة تدفع ثمن عدم اتفاق القوى السياسية بغض النظر عمّن يتحمل مسؤولية عدم انتخاب رئيس.

لذا، وفي زمن التعطيل والتجهيل، يأتي اعداد الموازنة المالية انجازاً يُسجّل لحكومة تصريف الاعمال، بإنتظار ما سيواجه المشروع في المجلس النيابي من ملاحظات منطقية او اعتراضات مالية او حسابات سياسية.