المطران جورج خضر مدرسة بكل ما للكلمة من معنى. هو ليس مدرسةً في الفكر والكلام فقط، بل وأيضًا في صمته وإصغائه. زائره كان يشعر دومًا بتواضع هذا الشيخ الجليل. فنّ الإصغاء عنده إحدى مواهبه المتعدّدة، التي سكبها الله عليه. فاستثمر هذه الوزنة ولم يطمرها، بل وزّعها علينا بسخاء، ولم يزل، من خلال إرثه العظيم، من كتابات ومقالات وعِظات، محفوظة بآمان.

علّمنا أن الإصغاء للآخر يكون بشكل جيد، واحترام مطلق، وهذا من شأنه أن يخلق جوًا من الثقة، بين المتكلّم والمستمع.

في طريقنا إلى الميلاد، تحضر أمامي كيفيّة إصغاء الرعاة جيدًا لهتاف الملائكة، فبادروا إلى بيت لحم، وعرفوا الصبيّ مخلّصًا، فرددوا مع الملائكة: "المجدُ للهِ فِي الأعالي، وعلى الأَرْضِ السّلام، وفي النّاس المسرّة" (لوقا ٢: ١٤). أمّا المجوس الذين أصغوا إلى صوت الله، فاهملوا هيرودس عند عودتهم من بيت لحم. أيضًا لا بد من الوقوف أمام مشهد يوسف خطيب مريم الذي أصغى إلى كلام الملاك في الحلم. ولا يمكن أن ننسى حوار مريم مع الملاك في حدث البشارة. فبعد أن أصغت وحاورت جيدًا: قالت: "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ". (لوقا ١: ٣٨).

فنّ الإصغاء حملني، أيضًا، إلى رسالة يعقوب، القائل: "إِذًا يَا إِخْوَتِي ٱلْأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي ٱلِٱسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي ٱلتَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا في ٱلْغَضَبِ"(يَعْقُوب ١: ١٩). هنا يعالج الرسول عيبًا خطيرًا في حوارنا مع بعضنا البعض. فنحن لا نعطي فرصة لمن يريد أن يتكلّم حتى يُعبِّر عن نفسه، بل نقاطعه لنعلن رأينا نحن، كأنّ الجميع لا يفهمون شيئًا، وأنا وحدي الذي أفهم. هناك من يريد أن يثبت ذاته في أيّ حديث، ويتكلّم كمّن لا يوجد غيره. وهنا نسمع الطريقة الصحيحة للحوار. أن نعطي للمتكلّم فرصة كافية ولا نقاطع المتكلّم. عمومًا مَن يسمع للناس بهدوء لن يخطئ في الردّ عليهم. ويقصد أيضًا الرسول أن نستمع لشكوى الناس من ألامهم. فهناك من يتألم ولا يجد مَن يستمع إليه، فلنستمع بوداعة ومحبة لمن يتكلّم، ونفتح قلوبنا للناس.

من يتعلّم من المسيح، تجده لا يتكلم كثيرًا بل يعمل كثيرًا.

لذا، قبل تلاوة نص الرسالة أو الإنجيل في القدّاس الإلهي، يقول الكاهن أو الشماس عبارة: فلنصغي. كيف نصغي أهم من الإصغاء! كلام الحقّ يبدأ بالإصغاء لكلام الله، وقد ورد في سفر صموئيل الأول: "تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ" (١ صموئيل ٣: ٩). الإصغاء لكلمة الله، هي أساس بناء شخصية الإنسان الواعدة.

في يوميات البشر، كم من مشادة تحصل بين الناس، ولا سيّما الزوجين، على سبيل المثال، لأنّ ما سمعه الزوج منها، يبدو مختلفًا عمّا فعلته الزوجة، والعكس صحيح، نتيجة لذلك،‏ تنفجر خصومة بينهما. وما ينطبق على الزوجين، قد ينطبق على كافة شرائح المجتمع. لذا يمكن للناس تجنّب الخصومات الناتجة عن سوء الإصغاء، إنطلاقًا من معرفة تفاصيل الحديث المهمّة والإصغاء للمضمون بشكل موضوعي، لا إصدار أحكام مسبقة، بغض النظر عن الأسباب المؤدية إلى ذلك.

الترّكيز في الإستماع، الأذان الصاغية، عدم المقاطعة، طرح الاسئلة، الانتباه إلى المضمون، الإصغاء حتى نهاية الكلام، عوامل أساسية في تجنّب الصراعات والوقوع في المحظور. ان الإصغاء ليس مجرّد فنّ،‏ بل هو دليل على المحبّة والاحترام للآخر.‏ فعندما تهتم بما يقوله الآخر، كائنًا من كان، عندها تكون مترجمًا لتعاليم الله، فتعيش عندها السلام المسكوب عليك من السماء، والمسرّة الحقيقيّة بين الناس.