«يا خادم ​المسيح​، لقد رأيت غاية أقوال الأنبياء الإلهيِّين السابقة، لأنَّ المسيح الَّذي كرزوا به أنَّه يأتي مِن بتول نقيَّة، قد لمسْتهُ وعاينتهُ طفلًا بما أنَّك طاهر النفس».

هذا مِمَّا نصلِّيه في خدمة القدِّيس يوسف خطِّيب مريم. يأتي عيده في ​الكنيسة​ الأرثوذكسيَّة في الأحد الَّذي يلي ​عيد الميلاد​ المجيد، لارتباطه بالعيد[1].

آخر ذكر له في العهد الجديد عندما بقي يسوع في أورشليم في الهيكل، ولم يرجع مع يوسف ومريم في القافلة المتوجِّهة إلى الناصرة. فعادا ووجداه وسط العلماء في الهيكل (لوقا 1: 48-49).

يوسف أمام الناس هو والده، وفي الحقيقة لا، فهو المربِّي الأمين والمطيع لكلمة الله، لأنَّ يسوع هو ابن الله المتجسِّد. كان يوسف رجلًا متقدِّمًا في السنِّ، وعُهِدَت إليه ​مريم العذراء​ ليحفظها ويصونها لكونه بارًّا. وكان أرملَ وعنده أولاد مِن أرملته[2].

اسم يوسف عبريٌّ ويعني «يَزيد»، والله هو المعطي والَّذي يزيد علينا برحمته ونعمه. نلاحظ أنَّ متَّى الإنجيليَّ في إصحاحه الأوَّل ينهي مع يوسف سلسلة نسب يسوع، لينقلنا بعدها إلى الحدث الميلاديِّ العجائبيِّ.

مكانة يوسف في المسيحيَّة كبيرة جدًّا، وهذا ظاهر في خدمته الليتورجيَّة الغنيَّة، وفي الفنِّ الكنسيِّ منذ القرون الأولى للمسيحيَّة.

فهناك ناووس من القرن الرابع الميلاديِّ محفوظ في ​الفاتيكان​ يشاهد فيه يوسف واقفًا خلف العذراء وثلاثة مجوس يقدِّمون الهدايا للطفل المولود.

مكانته في أيقونة الميلاد ليست في وسطها بجانب والدة الإله، وإنَّما على حدة. هذا لا يقلِّل من شأنه إطلاقًا، بل فقط لأنَّه ليس الوالد الحقيقيَّ ليسوع. نشاهده جالسًا وغارقًا في التفكير، كما يذكر متَّى الإنجيليُّ: «وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «يا يوسف ابنَ داود، لا تَخَفْ أن تأخذ مريم امرأتَكَ. لأنَّ الَّذي حُبِلَ به فيها هو من الروح القدس. فستَلِدُ ابنًا وتدعو اسمَه يسوعَ. لأنَّه يخلِّص شعبه من خطاياهم» (متَّى 1: 20-21).

تارةً يكون بمفرده وطورًا يقف قبالته راعٍ يمثّل الشيطان يحاول زرع الشكِّ في نفسه، ويوسف لا يعيره اهتمامًا. هكذا يوسوس الشيطان في نفوسنا أفكارًا هدَّامة ليسقطنا ويفصلنا عن خالقنا. يوسف لم يصغ إلى إبليس فحسب، بل قفز استباقيًّا مِن العهد القديم إلى العهد الجديد. عَبَر مِن عهد الشريعة والناموس إلى عهد النعمة والخلاص.

فلمجرَّد أنَّه رفض أن يُشْهِرَهَا، جعل الناموس خلفه. لم يفهم، وهذا حقُّه. فلا يوجد أيُّ سابقة للحبَل الإلهيِّ. ينظر إلى وجه مريم فيراه بريئًا وطاهرًا، وهي في الوقت نفسه حبلى! يا ألله. فأراد تخليتها سرًّا. هذا تعبير عن عجزه إدراك ما يجري، وفي الوقت نفسه لا يريد إدانتها.

صدقُه ونقاوةُ قلبه أعطياه امتيازًا كبيرًا، فأرسل الله ملاكه يطمئنه ويعطيه الحقَّ الأبويَّ بتسمية المولود الإلهيِّ، مذكّرًا إيّاه بأنه مِن سلالة داود، وشارحًا له معنى اسم الرب الَّذي هو فعل الخلاص: «يسوع» أي «الله يخلِّص».

أقدم أيقونة ميلاديَّة، مِن القرن السّادس الميلاديِّ، والموجودة في دير القدِّيسة كاترينا في سيناء، تظهره جالسًا حائرًا حاملًا عصا الرعيان. كيف لا وهو الراعي للراعي الأوَّل الربِّ يسوع المسيح؟!.

علاقته بوالدة الإله الطاهرة ظاهرة في أيقونات ميلاديَّة كثيرة، بحيث نرى والدة الإله تنظر إليه. كأنَّها بذلك تقول له ما قاله إشعياء النبيُّ، وأعاده متَّى الإنجيليُّ: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويَدْعون اسمه عمَّانوئيل الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا» (متَّى 1: 23 – إشعياء 7: 14).

بهذا احتلَّ يوسف قلوبًا كثيرة، فهو مثال الخادم الصامت الَّذي دخل الصمت الإلهيَّ لغة الدهر الآتي كما يقول القدِّيس اسحق السريانيُّ. وكما يدعونا القدِّيس سلوان الآثوسيُّ: الصمت قمَّة الصلاة. فلا نصغي إلَّا لكلام الربِّ، وعندما لا نفهم، نطلب المعونة منه، ونرمي بأنفسنا بين يديه، ونُسكت ضجيج الأهواء في نفوسنا وعواصف الأفكار الشرِّيرة الَّتي تجعلنا لا نرسو في ميناء إلهنا الهادئ والسلاميِّ.

حالة يوسف حالة حكمة ونضج. يقول سفر الأمثال: «مَنْ يُغَمِّضُ عَيْنَيْهِ لِيُفَكِّرَ فِي الأَكَاذِيبِ، وَمَنْ يَعَضُّ شَفَتَيْهِ، فَقَدْ أَكْمَلَ شَرًّا. تَاجُ جَمَال: شَيْبَةٌ تُوجَدُ فِي طَرِيقِ الْبِرِّ» (أمثال 16: 30-31). يوسف أغمض عينيه ولكنَّه لم يغمض قلبه. فأتاه الملاك في حلم حليم وطمأنه.

شيبته جسديَّة وخارجيَّة لكبر سنِّه، وروحيَّة وداخليَّة لنقاوته.

هكذا يظهر في الأيقونات. وهكذا بقي يُصوَّر في الفنِّ الغربيِّ إلى عصور حديثة، على سبيل المثال: لوحة حلم القدِّيس يوسف للفنَّانين الإيطاليِّين Francesco Trevisani (1656-1746م)، و Stefano Maria Legnani (1661 –1713م)، وغيرهما كثر.

وليس أجمل من أن ننهي مقالتنا مع ما نرتِّله في يوم التهيئة للميلاد: «قل لنا يا يوسف، كيف البتول الَّتي تسلَّمتَها من الأقداس، تأتي بها الى ​بيت لحم​ حُبلى؟». فيجيب قائلا: «إنَّني قد فتَّشتُ الأنبياء، وأوحي إليَّ من الملاك، فأنا واثق من أنَّ مريم ستلد الإله بحال لا تفسَّر، الَّذي سيأتي مجوس من المشارق ليسجدوا له، ويخدموه بالهدايا الكريمة. فيا من تجسَّدت من أجلنا، يا ربُّ، المجد لك».

فلنصمت مع يوسف الصمت الإلهيَّ، ولتكن هدايانا للربِّ كهدايا المجوس: صلوات صافية مثل الذهب، وأفكار نقيَّة ترتفع متل البخور، وتوبة صادقة تُميت كلَّ خطايانا مثل المرِّ.

إلى الربِّ نطلب.

[1]- هذا أمر متَّبع في الليتورجيا الأرثوذكسيَّة مع كلِّ الأعياد، بحيث يقام تذكار الأشخاص الَّذين لهم علاقة بالعيد بعد العيد المعنيِّ. مثال على ذلك، العيد الجامع لوالدة الإله هو في اليوم التالي لعيد الميلاد، كذلك العيد الجامع للقدِّيس يوحنَّا المعمدان هو في التالي لعيد الظهور الإلهيِّ لأنَّه عمَّد يسوع.

وأحيانًا يكون في اليوم التالي للميلاد بحسب ما يقع عيد الميلاد.

[2] - القديس أبيفانيوس القبرصي (382م)