لم تكن زيارة المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكشتاين، الثالثة إلى العاصمة اللبنانية بيروت منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، وما رافقها من "اشتعال" على خط "الجبهة الحدودية" جنوبًا، كسابقاتها في الشكل والمضمون، فالزيارة التي استمرّت لساعات معدودات، شهدت على اجتماعات لم تكن تُدرَج على "أجندة" الرجل سابقًا، كما حملت تصريحات انطوت على "تهديدات ضمنية"، على الأقلّ وفق بعض التفسيرات والقراءات.

فإذا كانت هذه الزيارة جاءت في سياق جهود يقودها من يوصَف بـ"عرّاب" اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، لاحتواء الوضع جنوب لبنان، وتفادي انزلاق البلاد إلى "حرب شاملة"، ولو أنّ الرجل لا يعترف أصلاً بوجود "حرب محدودة" كما قال، فإنّها أثارت في الوقت نفسه الكثير من التساؤلات عن طبيعة المهمّة والأهداف التي يتوخّاها، ولكن أيضًا عن الضمانات "المزدوجة"، سواء التي يطلبها أو التي يقدّمها في المقابل.

ولعلّ أكثر ما أثار "النقزة" لدى كثيرين تمثّل في تصريح الرجل على هامش الزيارة، بأنّ الهدنة التي تبدو الولايات المتحدة "واثقة" بأنّها ستبصر النور في غزة بالتزامن مع شهر رمضان، قد لا تنعكس "تلقائيًا وبالضرورة" على الجبهة اللبنانية، وهو ما "تلاقى" في جانبٍ منه مع التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة بسيناريو "التفرّغ" لـ"حزب الله"، في حال فشلت الجهود الرامية للتوصل إلى اتفاق على الطريقة "الدبلوماسية" التي يقودها الموفد الأميركي.

وفي حين يصرّ كثيرون على وضع هذا الأمر في سياق الضغط، وربما "الحرب النفسية"، لانتزاع بعض التنازلات أو الضمانات، فإنّ "المفارقة" التي أثارت الانتباه في زيارة هوكشتاين أيضًا تمثّلت في اجتماعاته السياسية غير المعتادة، كاللقاء مع قوى المعارضة، أو مع النائب السابق وليد جنبلاط، فكيف يمكن قراءة مفاعيل زيارة "الساعات المعدودات" إن جاز التعبير؟ وهل بدأ البحث بـ"اليوم التالي لبنانيًا"، على المستوى العملي؟.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ مجرّد حصول زيارة هوكشتاين إلى بيروت، يُعَدّ "مؤشّرًا إيجابيًا"، ويعكس نيّة أميركية واضحة باحتواء "التصعيد" الذي بلغ أوجه في الآونة الأخيرة، والذي يُخشى أن يتصاعد أكثر في الأيام المقبلة، في ظلّ تباين وجهات النظر بشأن مفاعيل "الهدنة" إن تمّت، علمًا أن هناك من يربط الأمر بالاستحقاق الانتخابي الأميركي، وإصرار الرئيس جو بايدن على تحقيق "إنجاز سياسي" متمثّل بمنع الانزلاق إلى حربٍ أخرى في المنطقة.

بهذا المعنى، يمكن أن توضَع زيارة هوكشتاين الثالثة إلى بيروت، وفي هذا التوقيت بالتحديد، في سياق "فرملة التصعيد واحتوائه"، بعيدًا عن القراءات المناقضة التي وجدت بعض الصدى، كالقول إنّها تأتي "تمهيدًا" لجولة تصعيد "مجنونة"، على طريقة "أعذِر من أنذَر"، وهي قراءات بنت على التحذيرات المبطنة التي وردت في كلام هوكستين العلني، والذي قيل إنّه لم يُرصَد باللهجة نفسها على الأقل، في الاجتماعات المغلقة التي عقدها.

لكنّ أهمية الزيارة تكمن وفق العارفين، في تجديد المساعي الأميركية لتكريس الهدوء على "الجبهة اللبنانية" بالتزامن مع مساعي الهدنة في غزة، ولا سيما أنّ هناك من يعتقد أنّ استمرار الصراع بات أكثر من مضرّ بإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي بدأ يعبّر عن "نفور" من سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي يتحضّر لمنافسة "حامية" مع سلفه دونالد ترمب، ولو أنّهما أساسًا "يزايدان" على بعضهما البعض، في فكرة دعم إسرائيل.

من هنا، ينصبّ الاهتمام الأميركي على "وضع حدّ" للتوتر في الجنوب، منعًا لانزلاقه في متاهات إضافية، وهذا هو "أساس" المهّمة التي يسعى هوكشتاين إلى تنفيذها، في ظلّ انطباع سائد بأنّه قادر على تحقيق مثل هذا "الإنجاز"، وهو الذي نجح في إقناع الطرفين بتقديم التنازلات المتبادلة للوصول إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية، الذي كان "شبه مستحيل" سابقًا، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ بالإمكان إعادة الكرّة مرة أخرى، ولو أنّ ظروف اليوم أكثر تعقيدًا.

أكثر من ذلك، هناك من يربط بين مسعى هوكشتاين هذا، وما تسرّب قبل أيام قليلة عبر الإعلام الأميركي، ونُسِب إلى مسؤولين من إدارة الرئيس جو بايدن، من حديث عن فرضية "العملية البرية" التي قد تكون إسرائيل بصددها في جنوب لبنان، إذا ما فشلت المحادثات، وكلّ ذلك يصبّ برأي العارفين في الخانة نفسها، وهي خانة الضغط، من أجل انتزاع الضمانات خصوصًا من طرف "حزب الله" المتمسّك بمبدأ "ربط الجبهات ووحدة الساحات".

وإذا كانت طبيعة مهمّة هوكشتاين تقوم على السعي لاحتواء التوتر، حتى تنعكس الهدنة في غزة تلقائيًا على جنوب لبنان، وتتحوّل إلى وقفًا فوريًا وربما دائمًا لإطلاق النار وللأعمال العدائية، فإنّ تساؤلاتٍ تُطرَح عن طبيعة الاجتماعات التي عقدها الموفد الرئاسي الأميركي، وما دار خلالها من نقاشات، خصوصًا في ما يتعلق باللقاء مع قوى المعارضة، والذي لم يكن يُدرَج في العادة على "أجندة" زيارات هوكشتاين، وغيره من الموفدين الدوليين.

يقول العارفون إنّ أبعاد هذا اللقاء قد تكون "سياسية" بالدرجة الأولى، باعتبار أنّه من غير المتوقع أن ينتظر "قيمة مضافة" من هذا الاجتماع على مساعيه، في ظلّ مناهضة هذه القوى لـ"حزب الله"، وعدم "موْنتها" عليه إن جاز التعبير، لكنه يأتي في سياق تفهّم "الهواجس" التي تعبّر عنها قوى المعارضة، التي لا يخفى على أحد "امتعاضها" من وتجاهلها واستثنائها في الزيارات السابقة، وكأنها ليست شريكة في صنع القرار.

صحيح أنّ أوساط المعارضة تنفي أن يكون الاجتماع مع هوكشتاين جاء بطلبٍ منها، كما روّج البعض، وتنتقد ضمنًا التسريبات عن أنّ اللقاء جاء "بدلاً عن ضائع" في إشارة إلى أنّ الموفد الأميركي الذي تعمّد "استثناء" وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، أراد الحفاظ على "توازن طائفي" في لقاءاته، إلا أنّها تعتبر أنّ اللقاء جاء من باب الاعتراف الأميركي بدور المعارضة، في ظلّ اعتقاد بأن السفيرة الأميركية لعبت دورًا في تأمين حصوله.

عمومًا، تقول أوساط المعارضة إنّ النقاش خلال اللقاء دار بالدرجة الأولى حول موقف المعارضة من التوتر الحاصل في الجنوب، وضرورة تطبيق القرار الدولي 1701 بالكامل، بل عن ضرورة أن يلحظ أيّ اتفاق يتمّ التوصل إليه انتشارًا فوريًا للجيش اللبناني على طول الحدود، مشيرة إلى أنّ الموفد الأميركي تفهّم الهواجس التي عبّرت عنها المعارضة، مؤكّدًا أنّ أولويته الآن تقوم على الوصول إلى وقف فوري للأعمال العدائية.

وهنا، حضر الملف الرئاسي على طاولة البحث وفقًا للعارفين، ليس من باب توسيع المبعوث الأميركي لنطاق مهمّته كما حاول البعض الإيحاء، ولكن من باب الحثّ على ضرورة انتخاب رئيس بأيّ وسيلة ممكنة، ولا سيما أنّ وجوده سيكون محوريًا في مرحلة "اليوم التالي" لوقف إطلاق النار، في إشارة إلى المفاوضات التي يفترض أن تنطلق عندها، والتي يجب أن يكون رئيس الجمهورية هو من يتسلّم إدارة دفّتها وفقًا للدستور.

في النتيجة، لا يمكن القول إنّ زيارة هوكشتاين حدّدت البوصلة إن جاز التعبير، أو حسمت السيناريوهات المنتظرة على خط الجبهة اللبنانية، سواء بالنسبة إلى وقف إطلاق النار، أو بالنسبة إلى ما بعده، أو ما يصطلح على وصفه بـ"اليوم التالي". على العكس من ذلك، فإنّ الزيارة ولو أعطت انطباعًا بأنّ مساعي "فرملة التصعيد" مستمرّة، قد تكون تركت الباب مفتوحًا أمام كل الاحتمالات والسيناريوهات، وهنا بيت القصيد!.