القداسة تجمع لأنَّها تنطلق مِن القدُّوس الَّذي يجمع. فعندما يتقدَّس الإنسان يتَّحد أوَّلًا داخليًّا، قلبًا وعقلًا، فيستنير ذهنه بالروح القدس لأنَّه يكون قد اتَّحد بالربِّ يسوع المسيح الَّذي «يجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد» (يوحنَّا 11: 52).
هذا الجمع يبدأ بالإنسان ذاته الَّذي تشتِّتُه التجارب داخليًّا، وتتقاذفه العواصف، كما نصلِّي في السحر: «الإنسان مثل العشب أيَّامه. كزَهَر الحقل كذلك يُزهر. لأنَّ ريحًا تعبر عليه فلا يكون، ولا يعرفه موضعُه بعد» (مزمور 103: 15-16).
فعندما يقيم الإنسان علاقة مع يسوع يتماسك داخليًّا ويصبح واحدًا، ومن خلال الاتِّحاد يصبح متَّحدًا مع رعيَّة أهل السماء القدِّيسين[1] الَّذين يتمحورون حول الربِّ، فينتقل الإنسان من اتِّحاد ترابيٍّ إلى اتِّحاد سماويٍّ، ويتغرَّب عن العالم الأرضيِّ.
هذا تمامًا ما تُظهره أيقونة جميع القدِّيسين حيث نرى سحابة مِن القدِّيسين والشهداء، مِن العهد القديم والجديد داخل دائرة كبيرة.
نرى في الوسط الربَّ الَّذي هو المحور، وعن يمينه والدة الإله، وعن يساره القدِّيس يوحنَّا المعمدان. إنَّها وضعيَّة الشفاعة Deesis. يحيط بالربِّ مخلوقات أربعة[2] ترمز إلى الإنجيليِّين الأَربعَة: متَّى: الملاك-الإنسان لأنَّه تكلَّم كثيرًا على ابن الإنسان. مرقُس: الأسد، كَونَ إنجيله يبدأ بعبارة «صوتُ صَارخٍ في البرِّيَّة» كزئير الأسد. لوقا: الثور، فهو يتكلَّم على زكريَّا الَّذي قدَّم ذبيحته على مذبح المحرقة رمزًا للصليب، كما أنَّ لوقا الإنجيليَّ تكلَّم وحدَهُ على العِجلِ المسمَّن في مثل الابن الشاطر. يوحنَّا: النسر، وهو الَّذي حلَّق في اللاهوت.
في أعلى الأيقونة نشاهد في الزاويتَين الملكَين داود وسليمان، فيسوع ابن داود بالسلالة، وسليمان بنى الهيكل الذي كان صورة مسبقة عن الهيكل الحقيقي الذي هو الرب.
يلفت نظرنا تحت يسوع حضور آدم وحواء اللذين يسجدان للربِّ أمام المائدة المقدَّسة ويحملان جرَّة، وعلى المائدة الإنجيل المقدَّس وخلفها الصليب مع الرمح والاسفنجة. ترمز الجرَّة إلى دموع التوبة الَّتي قدَّمها آدم وحوَّاء بعد طردهما من الفردوس كما يأتي في صلوات الصوم الكبير.
نشاهد في الأسفل مشهدًا فردوسيًّا مليء بالأشجار والنباتات. يقف في الوسط "دِسمَس" اللصَّ الَّذي قال ليسوع على الصليب: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ»" (لو 23: 42). مناشدته للربِّ في تلك اللحظة بتوبة صادقة نابعة من عمق القلب جعلَتْهُ يدخل الملكوت السماويَّ، وها نشاهده واقفًا حاملًا صليبه.
ونرى ابراهيم يحمل قماشًا بداخله نفوسًا بارّة، كما اتى في إنجيل لعازر والغني (لوقا ١٦: ١٩-٣١)، وفي الجهة المقابلة يعقوب يحمل ما يُمثّل "الأسباط الاثني عشر".
يذكر أن الأيقونة ظهرت مع العيد منذ القرن التاسع الميلادي.
نحن مدعوُّون إلى هذه الجمعة المقدَّسة لأنَّ دعوة كلِّ واحد منَّا هي أن نكون قدِّيسين لأنَّ إلهنا هو قدُّوس. وقد رتَّبت الكنيسة أن يكون أحد جميع القدِّيسين هو الأحد الَّذي يلي أحد العنصرة مباشرة. وذلك لتقول لكلِّ واحد منَّا كما قال الربُّ لتلاميذه أن يمكثوا في أورشليم لينالوا موعد الآب، أي حلول الروح القدس (أعمال 1: 4). وأورشليمنا سماويّة وليست ترابيّة.
الربُّ أتى تحقيقًا لوعد الخلاص الإلهيِّ الَّذي نقرأه في سفر التكوين بعدما أغوى الشيطان الجدّين الأولين وأسقطهما. فأتى يسوع من نسل حوَّاء وسحق رأس الحيَّة على الصليب، وأقامنا من موت الخطيئة، وفتح لنا باب السماوات.
أحد جميع القدِّيسين هو تتويج لمسارَين. الأوَّل، الزمن البندكستاريُّ الخمسينيُّ الَّذي بدأناه مع أحد الفصح المجيد وختمناه باليوم الخمسين، يوم العنصرة، وتخلَّله عيد الصعود الإلهيِّ.
كانت مرحلة قياميَّة بامتياز تحضيرًا لولادة جديدة بالروح القدس. وهنا نأمل أن تكون معموديَّتنا الجديدة تتويجًا لمسار حياتنا على الأرض. فهدف حياة المسيحيِّ بلوغ القداسة بالامتلاء من الروح القدس. معنى هذا الكلام أن نفرز أنفسنا للمسيح، ولا إلهَ آخر غير المصلوب نعبده.
هذا الأمر يتحقَّق بأنماط متنوِّعة، في قلب العالم، وفي العائلة، وفي الحياة الرهبانيَّة، وفي الحياة الإكليريكيَّة. أيًّا يكن، فالهدف واحد، يسوع أوَّلًا في حياتنا، والباقي كلُّه يأتي لاحقًا.
ما معنى هذا الكلام؟
هذا معناه أن نمتلئ من النعمة الإلهيَّة، ويسكن فينا سلامه، ونحقِّق هويَّتنا الَّتي خلقنا عليها، على صورته هو. ونعيش الحرِّيَّة الإلهيَّة، حرِّيَّة أبناء الله الَّتي لا تتسلَّط عليها الخطيئة ولا يكون للشرِّير مكسب فيها.
هذا كلُّه يلزمه جهاد كبير ومواظبة وقرار. وإن ثبت الإنسان دخل في العشق الإلهيِّ. الربُّ هو من عشقنا أوَّلًا وأعلن عن نفسه لنا، وما أجمل أن يأخذنا هذا العشق إلى حضن أبينا السماويِّ، ونرتِّل في حضنه: «أيُّها الملك السماويُّ»! وما أجمل أن يكتشف الإنسان أيضًا البنوَّة الإلهيَّة له، والكرامة الإلهيَّة الَّتي وهبنا إيَّاها الربُّ!
إلى الربِّ نطلب.
[1]. "فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ، مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلًا مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا للهِ فِي الرُّوحِ." (أفسس 19:2-22).
[2]. هَذِهِ المَخلُوقاتُ مَذكُورَةٌ في رُؤيا حَزقيَّالِ النَّبيّ (الإصحَاحَان الأَوَّلُ والعَاشَر)، وفي رُؤيا يُوحَنَّا الإنجِيليّ (الإصحَاحُ الرَّابِع). كَمَا أنَّ الرَّقمَ أَربعَة يُمَثِّلُ العَالَمَ في الجِهاتِ الأَربع (زك ١:٦، ٥، مت ٣١:٢٤).