تكشف زيارة المبعوث الرئاسي الأميركي توماس براك الثالثة إلى بيروت، عن تحول مهم في النهج الأميركي تجاه الملف اللبناني، تميّز بالتراجع عن دور الوسيط التقليدي لصالح اعتماد سياسة "تمرير الوقت" كاستراتيجية ضغط طويلة المدى، وهي السياسة التي كانت تبرع فيها ايران والحلفاء، وها هي اميركا باتت تستند اليها اليوم.
أوضحت تصريحات براك تراجعاً واضحاً في الموقف الأميركي من تقديم أيّة ضمانات للجانب اللبناني بالنسبة الى اسرائيل، كما غياب الحديث عن القرار 1701، كما قال بصراحة تامة ان واشنطن لن تمارس أي ضغوط على تل ابيب أو تقديم طمأنات أمنية للبنان. هذا التوجه يعكس انتقال واشنطن من دور الوسيط، إلى دور المراقب الذي يكتفي بتحديد الشروط دون تحمل مسؤوليات الضمان، ويقلل بالتالي من طمأنة اللبنانيين الذين يعرفون تماماً ان رسن اسرائيل هو في البيت الأبيض. إزاء هذه النقلة النوعية الأميركيّة، يجد لبنان نفسه مضطراً لإيجاد حلول داخليّة لمعضلة السلاح، بعيداً عن أيّ أمل في الحصول على ضمانات دوليّة تحميه من التداعيات المحتملة للخطوات المطلوبة منه. هذا النهج يعيد إنتاج المقاربة الأميركيّة التي اعتُمدت في ملفات إقليمية أخرى، حيث تُترك الأطراف المحلّية لتواجه خياراتها المصيريّة من دون شبكة أمان دوليّة، مع الإعلان عن دعمها، انما كلامياً فقط.
تبنّى براك خطاباً حاسماً حول ضرورة التخلص من سلاح حزب الله، ليكشف بذلك عن اعتماد المنطق الإسرائيلي كأساس للموقف الأميركي، من دون مراعاة التعقيدات الداخلية اللبنانيّة أو البحث عن حلول تدريجيّة، كان قد أشار اليها بنفسه قبل أيام قليلة من القصر الجمهوري اللبناني، وكأنه بذلك يقول للبنانيين: إسرائيل حققت انتصاراً وهذا يمنحها الحق في فرض شروطها، وأيّ مقاربة تفاوضيّة أو تدريجيّة لن تكون مقبولة من الجانب الإسرائيلي، ولن يضغط الاميركيّون لقبولها. هذا الأمر يضع لبنان أمام خيار ثنائي صارم: إما الاستجابة الكاملة للمطالب، أو مواجهة عواقب عدم الامتثال. وما عزز هذا الموقف، هو ما اعلنه براك باعتبار حزب الله منظمة إرهابيّة بالنسبة الى اميركا. واذا كان صحيحاً ان هذا الموقف لم يتغيّر او ليس بجديد، الا انه يعتبر تراجعاً واضحاً عن المواقف السابقة التي ألمحت إلى إمكانيّة التفريق بين الجناح العسكري والسياسي للحزب. وهنا ايضاً يبدو ان الاميركيين يتبنون الرؤية الإسرائيليّة الشاملة التي ترفض أيّ تمييز داخل الحزب، ما يعني عدم تقبّل أي إمكانية للتعامل معه كطرف سياسي شرعي في المعادلة اللبنانية.
يحمل هذا الموقف تداعيات عميقة على البنية السّياسية اللبنانية، حيث يتطلب إعادة صياغة شاملة للمشهد السياسي ووضع احد مكوناته خارج المعادلة في تجاهل واضح للواقع الديموغرافي والسياسي للحزب.
وفق كل هذه المعطيات، من الواضح تراجع الاهتمام الأميركي المباشر بالملف اللبناني لصالح التركيز على ملف غزّة، حيث باتت التطورات في القطاع تحتل الأولوية في الاستراتيجية الأميركية الإقليمية والتركيز على الحلول الشاملة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني كمدخل لإعادة تشكيل المنطقة. في هذا السياق، يُنظر للملف اللبناني كقضية تابعة ستجد حلها بمجرد حسم الملفات الأساسية.
تكشف مجمل التطورات عن دخول الملف اللبناني مرحلة جديدة تتسم بوضوح الشروط الأميركية وغياب الضمانات، في ظل توازن قوى إقليمي جديد يميل لصالح إسرائيل. هذا الواقع يضع لبنان أمام خيارات صعبة تتطلب إعادة تقييم شاملة في ضوء تخلي اميركا المبكر عنه، بعد ان كان الرهان على وقوفها الى جانب السلطة اللبنانية في أولى خطواتها الجادة لاستعادة سيطرتها.
انه التحدّي الأكبر، في ظلّ التطورات المتسارعة التي لا يرحم فيها الوقت، وبقدر ما كانت لعبة "تمرير الوقت" مجدية الى حدّ ما بالنسبة الى من كان يتقنها، واستفاد لبنان بعض الشيء منها، انقلبت الأمور رأساً على عقب وباتت هذه اللعبة كارثيّة على لبنان، وتضعه في موقف لا يحسد عليه بعد تخلّي الاميركيين عنه.