منذ سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة سياسية وأمنية غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فقد باتت البلاد تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الذي تحوّل من زعيم فصائل جهادية إلى رأس الهرم السياسي في سوريا الجديدة، بدعم عربي ودولي لافت، تتصدره الولايات المتحدة الأميركية ودول عربية تتصدرها السعودية. هذا الواقع لا يعني أن سوريا تجاوزت محنتها، بل ظهر انه ادخلها في مرحلة جديدة شديدة التعقيد، تفتح الباب واسعًا أمام مشروع تقسيم غير معلن. اما الاخطر من ذلك، فهو دعوة لبنان الى الاقتداء بالمثال السوري الراهن، لكي ينعم "بالمساعدات والخيرات"، اي بمعنى آخر ان يتحضر للتطبيع مع اسرائيل من جهة، وللتقسيم الذي اصبح واقعاً لا يمكن نكرانه في سوريا حالياً.
قيادة الشرع (الجولاني) لسوريا لم تأتِ فقط من فراغ، بل وليدة هندسة سياسية إقليمية-دولية حاولت حصر السلطة بعدد من المناطق، واظهار ان الفوضى التي تسود مناطق اخرى، لا يمكن السيطرة عليها الا عبر تدخل قوى خارجية (اسرائيل وتركيا مباشرة) وفي ظل تواجد اميركي-روسي بشكل دائم. من هنا، يمكن فهم الدعم الذي يتلقاه الرئيس السوري الحالي، وكثرة الزيارات والرغبات في تقديم الدعم المعنوي والمادي. ومع انحسار الدورين الإيراني والروسي، اللذين كانا أساس دعم النظام السابق، باتت سوريا اليوم خارج دائرة نفوذ ما يُعرف بمحور "الممانعة"، ما يفتح شهيّة بعض الأطراف لتثبيت واقع تقسيمي، لا يقوم على حدود مرسومة بل على تفاهمات أمر واقع.
رغم هذا الانتقال السياسي الحاد، فإن الوضع الأمني والشعبي في سوريا لا يزال هشًّا. الانقسامات المناطقية، وتردي البنية التحتية، وغياب المؤسسات الموحدة، تجعل من أي مشروع لإعادة بناء الدولة في ظل سلطة الشرع (الجولاني) محفوفًا بالمخاطر. وبينما تُقدّم مساعدات سخية لدعم هذه السلطة الجديدة، يُمارس في المقابل ضغط تصاعدي على لبنان ليحذو حذو سوريا، باعتبار أن "الاستقرار في سوريا" يمكن استنساخه عبر دعم قوة أمر واقع مشابهة في بيروت، وهو طرح خطير يتجاهل التعقيد الطائفي والمؤسساتي في لبنان، ويهدد بصراعات دموية. الازدواجية تتجلى بوضوح في الملفّ الاقتصادي، حيث يتسابق الخارج لتنفيذ مشاريع البنية التحتية في سوريا، ومنها مشروع مد خط الغاز من أذربيجان عبر تركيا بدعم قطري، والذي يمر عبر الأراضي السورية الجديدة، فيما لا يزال لبنان ينتظر تنفيذ وعود بتزويده بالغاز عبر الأردن وسوريا، وهي وعود أطلقها الموفد الأميركي السابق آموس هوكشتاين قبل سنوات قليلة، ثم جرى التراجع عنها بذريعة "قانون قيصر"، رغم تأكيدات سابقة بأن القانون لن يشكّل عائقًا. النتيجة ان سوريا تحصل على الغاز، بينما لبنان يتخبط في العتمة والانهيار.
وبالتالي، ما يراد ان يقال للبنان، انطلاقاً من هذه الفكرة، هو ان يتحضر لتوقيع التطبيع او الاتفاق مع اسرائيل وللتقسيم، وهو ما تعيشه سوريا حالياً التي انخرطت بالفعل في مفاوضات مباشرة مع اسرائيل بسحر ساحر وبين ليلة وضحاها، فيما الاسرائيليون لا يزالون يسرحون على الاراضي السورية، والمشهد الذي انتشر عن استقبال المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي افيخاي ادرعي إلى القرى الدرزية الواقعة على سفوح جبل الشيخ في جنوب سوريا، تتحدث عن نفسها وتدفع الى التساؤل: اذا كان ادرعي قد حظي بمثل هذا الاستقبال العارم، فكيف سيتم استقبال مسؤول فعليّ اسرائيلي؟.
وهل المطلوب ايضاً من لبنان، اذا ما اراد التمثل بسوريا حالياً، ان يشهد اضطرابات امنية وعسكرية في مناطقه، تدفع الى التيقظ من حصول شرخ كبير بين شرائح المجتمع اللبناني وتشتيت الجيش لاستهلاكه في السيطرة على الداخل، تمهيداً لتدخل اسرائيل او غيرها للسيطرة على الحدود وعلى جزء من المناطق اللبنانية.
المشهد السوري، كما يتبلور اليوم، هو مشهد سلطة بديلة نجحت في تثبيت نفسها بدعم خارجي، لكنها لم تبنِ بعد مشروع دولة موحدة. الدعم الدولي والعربي للشرع (الجولاني) لا يُخفي واقع التقسيم الفعلي، ولا ينفي خطورة انتقال هذا النموذج إلى دول الجوار، وفي مقدمتها لبنان. فالخطر الحقيقي لا يكمن في السلاح أو الاقتصاد فقط، بل في الترويج لفكرة "الاستقرار بالقوّة" كبديل عن الدولة والمؤسسات، وهي وصفة لفوضى ممتدة في المدى المتوسط.