من المبكر جداً الإحاطة الكاملة بأسباب استقالة الرئيس نجيب ميقاتي، وسبر أغوارها العميقة، خصوصاً ما جرى في اليومين الأخيرين، لا بل الساعات الأخيرة من عمر الحكومة الميقاتية، التي كان "النق والنقار" السمة البارزة فيها على حساب "كلنا للعمل".

لعل الرئيس ميقاتي الذي وضع خطة مبرمجة لصيرورة استقالته من توقيتها وإخراجها، تعمّد في الشهرين الأخيرين إحداث حالة من الجفاء في العلاقة مع الأكثرية، شملت "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، والرئيس بري على وجه الخصوص، رغم الود الظاهر أمام عدسات الكاميرات، وذلك بشكل مفتعَل لم يكن أحد ليلمسه بشكل واضح، إنما تعمّد وتقصّد تأسيس رؤيا جديدة تتكامل تراكمياً، وصولاً إلى الاختراق المنتظَر باختراع شمّاعة داخلية لإخفاء الأسباب الحقيقية بالتكافل والتضامن مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط، علماً أن مراقبة وتتبّع هذا السيناريو بمرتكزاته الصلبة، لا تتصل بشماعات الداخل فحسب، كقصة التمديد للواء أشرف ريفي، وتشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات النيابية، بل ممّا سمعه ميقاتي في الآونة الأخيرة من الغرب وبعض العرب.

يقول سياسي بارز في مجلس خاص، إن الأسباب الكامنة تعود إلى زيارة قام بها ميقاتي إلى لندن وباريس قبل مدّة، وتحدّث إلى وليم هيغ؛ وزير خارجية بريطانيا، ولوران فابيوس؛ وزير خارجية فرنسا، وسمع من الاثنين كلاماً مفاده أنه آن أوان الافتراق في حكومة يجسّد فيها "حزب الله" نقطة المركز.

تضاف إلى ذلك "وشوشات" السفيرة الأميركية في بيروت المستمرة، وما نقله وليد جنبلاط عن مسؤول سعودي بارز مفاده أن الأوضاع في المنطقة ستتغيّر، وهناك استحقاقات مقبلة قد يكون لبنان أحد مسارحها.. عندها أدرك الرئيس ميقاتي أن استقالة تأتي الآن أفضل من الغد، وهو أهون الشرور، واتقاءً ونأياً بالنفس للهرب من واقع قد يكون مأزوماً وغير قادر على تحمّله.. ورأى خبير في السياسة اللبنانية أن المخاطر التي يكون قد استشعرها أو أُبلغ بها، هي في الحقيقة وليدة مشاعر شخصية دفينة يتحكّم بها الرجل، وأهمها مهاراته الذاتية في ميدان العمل السياسي اليومي، أو في علاقاته العامة.

إذاً، قدّم الرئيس ميقاتي للبنانيين صناعة مبتكَرة هي "خلطة الاستقالة"، موارياً ومازجاً سلسلة من العوامل المحلية والخارجية الشخصية والسياسية والمذهبية والمستقبلية، ومحاولاً استثمار بأقصى ما يمكن كل هذه العوامل في وقت واحد ليبتعد عن الكأس المُرّة لو لم يقدم على خطوته تلك، مطلقاً العنان لتفسيرات وغموض يعتقد هو أنها قد تساهم في تحويل الخسارة إلى ربح.

أمّا في موضوع اللواء ريفي، فيعتقد سياسي أكثري أنها قد تكون السبب الأساس، ومعه "هيئة الإشراف" هي العامل الأقوى، من دون إغفال العامل الخارجي، لأن ممارسة عامين في العمل الحكومي برأيه، كانت صعبة ومتعبة، لكن رغم ذلك ما من شك أن الحكومة هذه أمّنت السلم الأهلي بالحد الأدنى، وباعتقاد هذا السياسي فإن أوضاعاً صعبة مرّت بها البلاد، واستحقاقات مهمّة، كتمويل المحكمة الدولية ومقتل اللواء وسام الحسن، إلا أن الحكومة الميقاتية لم تهتز، وبقيت متماسكة، فلماذا الآن؟ هل كان الرئيس ميقاتي يريد صفقة سياسية مع "حزب الله" والرئيس برّي والعماد ميشال عون؟

من جانبه، يرى أحد الوزراء في الحكومة المستقيلة، أن الرجل كان فعلاً يودّ أن يحكم حتى إجراء الانتخابات النيابية، لكن الأزمة السورية فاجأته وصعّبت عليه المهمّة، ونتيجة تصارع النفوذ في المنطقة، انعكس هذا على الداخل وعلى الحكومة، وصار عليه أن يسير بين الألغام، فالرئيس ميقاتي لديه شركات وأموال طائلة في الولايات المتحدة لا يريد أن يخسرها من أجل موقف، فبدأ بمسايرة "تيار المستقبل"، ورفض طلبات إقالة ريفي والحسن، ثمّ وضع ميرزا مستشاراً له، فضلاً عن تحمّسه الدائم لتمويل المحكمة الدولية، وإعطاء داتا الاتصالات لفرع المعلومات، رغم أن "تيار المستقبل" لم يعجبه العجب، وأخيراً وليس آخراً، انسجامه التام مع الرئيس ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط في الرؤى والسياسات، كل هذه الأمور مجتمعة وضعت الرئيس ميقاتي في موقف غير متوازن، وأدخلت البلد في المأزق الذي من المرجّح أن يستمر أشهراً طويلة انتظاراً لتسوية إقليمية واتفاق أميركي روسي - إيراني على ترتيب وضع المنطقة، وعلى رأسها الوضع السوري مفتاح الحلول المقبل.