لطالما حلمت الأمم بـ"التغيير" كهدف لها وكان طموحها التحرر من الاستعباد والظلم. كلما شعرت بهذا الظلم يستشري داخل انظمتها، تثور عليها، وبعد أن تسقطها تتغنى بذلك لأجيال عبر التاريخ، إلا أننا كشعوب عربية كانت قد رُصد لنا آخر هذه الاحلام في خمسينيات القرن الماضي حين حلمت الامة العربية بـ"الوحدة"، بعد أن تقسمت الى دول صغيرة وزرعت بيننا دولة عنصرية، دمرت ما تبقى لنا من حلم عبر هزائم ونكسات تلو الاخرى رسخت وجود هذا الكيان الى ان حظي باعترافات أنظمة عربية كسرت ظهر الامة وحمت ظهر اسرائيل بيننا .

فمنذ قيام دولة اسرائيل جاهرت بحلمها الممتد من النيل الى الفرات والذي اسقطته حركات التحرر لاكثر من مرة، كما ان هذا الحلم واجه ايضا منذ أن نشأ مقاومة من نوع خاص تمثلت بالتنوع الموجود في جوار هذا الكيان، فلم يكن غريبا ان تجاهر اسرائيل في عدائها لكل من مصر ولبنان وسوريا والعراق اذا ما نظرنا الى طبيعة هذه الدول وطبيعة اسرائيل.

وما لم يكن أيضا صدفة هو ان تكون عاصمة هذه الدولة هي مدينة القدس، حيث التقت الحضارات والاديان السماوية عبر التاريخ، واذا نظرنا الى الحلم الاسرائيلي الممتد من النيل الى الفرات سنرى بانه لا يمكن ان يكون مجرد صدفة عابرة أن يمر من مصر وصولا الى العراق، فهاذا الحلم الذي يريد اقامة دولة عبرية موسعة وان اسقط لاكثر من مرة الا أننا سنرى انه بقي في نفس المُخطط الاسرائيلي "الذكي" و"الصبور".

نعم فان هذا المُخطط هو "ذكي" و"صبور"، فهو استطاع أن يفهم جهلنا وصبر لاكثر 60 عاما حتى ينطلق في تنفيذ مخططه.

ومن هنا وانطلاقا من هذه الفرضية فان هذا الحلم كان عليه أن يمر بدول لطالما تغنت بتنوعها الديني والطائفي، الا ان هذا المخطط كان ذكيا عندما عرف ان هذا "التنوع" هو من سينتج حلمه، حيث ظهر له بشكل جلي جهلنا حين قبلنا ان نقسم كدول واثبتنا جهلنا مرة اخرى حين قبلنا بوجود التطرف الديني بيننا، فبمجرد أن زرعه بيننا احتضنت شعوبنا هذا التطرف كـ"حلم يحميها مما يحاك لها من تهديدات وجودية لما عرف بالاقليات" وهذا ما صدم المخطط نفسه.

فعندها قرر المُخطط أن يدعم نشأة جماعة الاخوان المسلمين في مصر عندما اجتمع بمؤسسها حسن البنا، وذلك من اجل خلق حالة تطرف تضرب التنوع الموجود في امة يجمعها أكثر من عامل، ولكن مشروعه هذا اصطدم بحلم الوحدة العربية الذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي ففشل في تحقيق هدفه المرجو، فذهب لمشروع أكثر تطرفا من خلال دعم انشاء مجموعة "جهادية" عرفت باسم تنظيم "القاعدة" منذ العام 1980 بعد أن اجتمع بمؤسسها اسامة بن لادن، واتفق معه أن يكون الهدف الاساسي لهذا التنظيم هو استهداف الوجود المسيحي في الشرق الاوسط ومن ثم تكفير المسلمين وبالتالي احداث الانشقاقات التي نشهدها اليوم.

وهو "صبور" لانه انتظر أكثر من 60 عاما حتى جعلنا نفهم ما كان مستحيلا تحقيقه بالامس كيف اصبح امرا واقعا وكيف انغلقنا على أنفسنا كفئات تمسكت بديمغرافيتها وصنعت حدودا فعلية جديدة وليست مجرد خطوط وهمية.

وقد تجلى صبره عندما انتظر لحظة انتشار التطرف القاهر للتنوع بيننا فجعلنا نثور على "الظلم" الذي زرعه وحماه عبر انظمة تغنت بالتحالف معه.وبعد ان جعلنا نسقط هذه الانظمة تحت عنوان "الحرية"، فوجئنا باننا اسقطنا معها تنوعنا، حيث ظهرت تصرفات دموية وعنيفة، وانتشرت كتصرفات باتت شبه يومية غطاها الاعلام العالمي بشكل حصري في كل مصر ولبنان وسوريا وصولا الى العراق رغم انتشارها في أغلبية دول العربية، ألا أنه أراد بالحصر أن يثبت للعالم أن تنوعنا في هذه البلدان هو مجرد كذبة تاريخية كانت تضبطه ديكتاتوريات وانظمة قمعية، وليثبت أننا مجرد عنصريين ويبرر من خلالنا أحقية تمسكه بوجود دولة لليهود الذين يشكلون اقليه في هذا الشرق الاوسط الجديد .

وبعد ان بدات الاحداث الدموية تضرب هذه الدول بكل مكوناتها حتى السياسية منها، وبدأت تأخذ طابعا دينيا وطائفيا وفي كثير من المناطق عرقيا، وبعد ان كفرت وانغلقت كل فئة على بعضها البعض بدأت تطرح فكرة التقسيم داخل دول خاصة بها تقوم على المذاهب او الاعراق، عندها اكتفى هذا المخطط باعلان رغبته بانشاء دولة يهودية، الا انه في يوم ما سيعلن من جديد عن حلمه بدولة عنصرية تمتد من النيل الى الفرات عند الاعلان عن اول دولة جديدة ستقام في المنطقة على اساس طائفي أو مذهبي او حتى سياسي على غرار ما حصل في السودان.