طفح الكيل وسقطت نقطة المياه التي "عوّمت" الكوب... لم يعد أهالي عرمون وبعورته وعين درافيل وجوارها يحتملون السكن في مكب نفايات كبير تنبعث منه روائح وغازات سامة بين الحين والآخر، فقرروا الإنتفاض بعد أن أصبحت منطقتهم في حال بيئية يرثى لها، وبعد أن أصبح أبناؤهم في حالة مرض، في أفضل الأحوال، مؤجّل.

أكثر من 5 أشهر مضت على بدء "حملة إقفال مطمر الناعمة"، والقيمون عليها مصرّون على متابعة تحركاتهم حتى الوصول إلى الهدف المنشود: إقفاله نهائياً دون أي تأجيل أو إنتظار... وإلاّ؟ فالتصعيد هو الحل وصولاً إلى إقفال الطريق أمام شاحنات رمي النفايات.

مبيد بشري

وفي هذا الإطار، يشرح المهندس فؤاد يحيى، أحد الناشطين في الحملة أننا "بدأنا فيها بعد أن وصلنا إلى مرحلة الإختيار بين إقفال المطمر ومغادرة البلدة"، مشدداً على أن "هذا المطمر هو قنبلة موقوتة من النفايات... فها إن بلدات دوحة الحص، دوحة عرمون، عرمون، عرمون بساتين، عين درافيل، بعورته، عبيه... وغيرهم، لم تعد آهلة للسكن".

"النشرة" إتجهت إلى تلك البلدات "المتمتعة" كل يوم بمنظر النفايات وبصوت الشاحنات وبـ"الرائحة العطرة"، فلاحظت أن تلك القريبة من المطمر باتت شبه خالية من السكان. فبلدة عين درافيل مثلاً، التي تهجّر أهلها إبان الحرب اللبنانية، لم يعودوا إليها حتى اليوم لأن 92% من حجم المطمر يقع فيها.

وفي طريق "سرّي" Off Road توجهنا إلى مكان قريب من المطمر لمراقبة عملية الطمر الجارية، فلاحظنا شاحنات عدّة تعمل في تلك "المدينة" التي تدعى مطمر الناعمة، وترمي كل أنواع النفايات. وهنا، كشفت مصادر "النشرة" أن نفايات المستشفيات التي تعتبر خطرة جداً ترمى أيضاً هناك، ويحكى في المنطقة نقلاً عن سائقي الشاحنات أنهم يرون أيضاً جثث الأطفال المُجهضين وأمورًا "غريبة عجيبة" مرمية.

وإذ يؤكد يحيى هذه المعلومات، يوضح أن "هذا المطمر هو منجم ذهب لبعض المسؤولين والسياسيين"، متوقعاً ان يكون الوصول إلى نتيجة وإقفاله مسيرة "طويلة وصعبة" ولكن ليست مستحيلة.

أما المسؤولة الإعلامية عن الحملة راغدة الحلبي فتشير إلى أن "النفايات ترمى في المكبات بشكل عشوائي، أما المطمر فيجب أن يكون له مقاييس هندسية ويجب ألا يطمر فيه إلا العوادم أي النفايات التي لم يتوصل الإنسان إلى طريقة يتخلص منها، وهذا ما لا يحدث لدينا". وتتابع: "نعلّي الصوت اليوم نتيجة الطمر العشوائي الذي يؤدي إلى رفع نسبة السرطان إلى جانب العقم لدى الأطفال بالإضافة إلى أمراض في الجهاز التنفسي"، مؤكدة أن "الوضع لا يطاق". وتقول: "هذا المطمر يجب أن يقفل ويعالج. أهل منطقتنا لديهم كرامتهم وإحترامهم ومن المفروض أن تقفله الدولة، فنحن لسنا بحشرات لنعيش مع النفايات ولكي نباد في النهاية لأن هذا المطمر مبيد بشري... فكفى ذل وإهانة".

شو أنا "غريندايزر"؟

يتذمر يحيى من الهواء المسمم في المنطقة، ويشدد على أن نسبة الأمراض باتت مرتفعة الأمر الذي دفع الناس إلى التحرك رغم الضغوط السياسية. أما فياض عيّاش، أحد أبناء بعورته الذي يعاني كغيره من الروائح الكريهة ويعاني أبناءه من الأمراض، فيخبر أنه اختار إستئجار منزل آخر وزيارة منزله المطلّ على المطمر بين الحين والآخر، ويؤكد أن "كل الأولاد هنا بحالة مرض مستمر لذلك يلقبوننا بالـ"نمور" لأننا نبقى عابسين بسبب الروائح الكريهة والأمراض. وفي الليل، يدعون الغازات السامة تنبعث بشكل كبير فيستيقظ الناس على الروائح". ويتابع: "كلهم بلا أخلاق... فالمكبات والمطامر توضع في الصحارى لا بين القرى... لم يعد بإمكاننا أن نتحمل، فهم يقتلوننا في قلب منزلنا".

ويقول عياش: "في البداية قبلنا بالمطمر على أساس أن الفترة محدودة أما اليوم فقد أصبحت الكمية هائلة جداً ونخاف أن ينفجر يوماً ما كل هذا!".

بدوره، يكشف مختار بعورته طارق غرز الدين، المعارض أيضاً لإستمرار المطمر، عن رشاوى توزع على الجميع خصوصاً على أولئك الذين يشكلون خطراً على المستفيدين من المطمر "إلا أننا نحن لا نقبل بأن نبيع أولادنا... سننزل على الأرض وسنتظاهر وسوف يقفل بإذن الله"، مشدداً على أن "كل الذين يتحركون ضد المطمر ليسوا منتمين لأي حزب سياسي، ولا تدعمنا أي جهة بل نحن شعب ينتفض جراء نفسه، من جراء الضرر... فالساكت عن الحق شيطان أخرس، لكننا نموت كل يوم، وهل من شيء أبشع من الموت؟ فحتى متى نبقى صامتين؟". ويعبر عن أسفه من قيام البعض بتسييس الموضوع، موضحاً أننا لسنا ضد أحد بل ضد وجود المطمر لأنه كارثة بيئية.

وكان مطمر الناعمة قد تأسس عام 1997 لمدة محدودة على أن يستوعب 2 مليون طن من النفايات. وحتى في تلك الكمية، يمنع السكن حوله بقطر 10 كم، فكم بالحري اليوم بوجود 10 مليون طن على الأقل.

هنا، يوضح يحيى أن "بعض الناس تشم الروائح ولا تتكلم، البعض الآخر تعود عليها، لكننا بدأنا نرى أشخاصاً ذوي كرامة ولا تقبل بهذا الذل"، مشدداً على ضرورة إقفال المطمر عام 2014 دون أي تمديد، ومعبراً عن تشاؤمه من "الوعود الكاذبة".

قصص كثيرة يتناولها أبناء المنطقة كقصة تلك الفتاة التي طلبت من والدها إقفال المطمر: "بابا... لي ما بتسكّر المطمر؟"، فأجابها والدها: "شو أنا غريندايز!؟". وقصص أخرى أكثر حزناً عن حالات من "اللوكيميا" التي تصيب شخصاً في المليون يعاني منها 10 أشخاص على الأقل في المنطقة هناك.

تبقى المطامر حاجة ولو مهما اتخذت الإجراءات، لكنها حاجة لـ5% فقط من النفايات التي تعتبر عوادم، وكل ما تبقى فهو كنز يدخل أموالاً طائلة على خزينة الدولة إذا تم إعادة تدويره أو الإستفادة منه، ويوفر في الفاتورة الصحية الكبيرة التي يدفعها اللبنانيون ويوفر أيضاً هذا الموت البطيئ والذل الذي يعاني منه سكان وأهالي منطقة الشحّار. إلا أن المصالح الشخصية ما زالت تطغى على المصلحة العامة في وطننا... ويبقى كل شيء مرتفع السعر في لبنان إلا الإنسان... فكأنه لا قيمة له وهو القيمة بحد ذاتها!

للاطلاع على ألبوم الصور كاملاًاضغط هنا.