يعيش لبنان على وقع ارتدادات الاتفاق الغربي ـ الايراني حول الملف النووي. بخلاف الاحتفالية بانتصار خط محور ايران ــ سوريا، هنا قراءة في الوجه الآخر للاتفاق وتداعياته

منذ اللحظة التي صرف فيها النظر عن الضربة العسكرية الاميركية على سوريا، وصولاً الى لحظة الاعلان التاريخي عن اتفاق ايراني ــــ غربي حول التخصيب النووي، ثمة شعوران يتحكّمان باللبنانيين. فريق 8 آذار استعجل اعلان الانتصار، وفريق من قوى 14 آذار استعجل اعلان الانكسار.

اليوم (وبعيداً عن موقف حزب الله المعني اولاً وآخراً بوضع ايران في المنطقة)، يبدو للعماد ميشال عون ان خياره الاستراتيجي انتصر، وقف الى جانب سوريا ورفض خيار التنظيمات المناهضة، لا «النصرة» ولا «الاخوان المسلمون»، ولا طبعا «داعش». ومع المراوحة في الوضع العسكري السوري وعدم سقوط نظام الرئيس بشار الاسد، واعلان الاتفاق النووي، يحلو لعون ان يقول ان رؤيته قد تحققت، وان ترجمة ذلك ستصرف عمليا لحسابه في لبنان.

لكن هل انتصر، فعلا، خيار ايران في المنطقة، وخسر مشروع القوى المناهضة له من الخليج الى المتوسط، مروراً بسوريا ولبنان والعراق.

قد يبدو استعجال استخلاص النتائج مبكراً. وفي مقابل كمية التفاؤل التي انتشرت أخيراً، هناك من لا يزال يرى ان هناك استعجالاً في قراءة المتغيرات الدولية. وينقسم هؤلاء الى فئتين، الاولى تقرأ الحدث الاقليمي من خارج الاصطفاف اللبناني، والثانية تقرأه من زاوية ارتداده على لبنان وعلى فريق 14 آذار تحديداً.

في الرؤية الاولى، ضرورة النظر الى الاتفاق من منظار أوسع من الوضع اللبناني. فاتفاق على هذا المستوى وان ضمّ في تفاصيله الصغيرة على المدى البعيد وضع لبنان من زاوية وضع حزب الله، الا انه يتمتع بشمولية، تتعلق بمصالح الدول الاساسية في الشرق الاوسط. فايران قدمت تنازلا مهما في برنامجها النووي، كما قدمت سوريا تنازلا في تفكيك ترسانتها الكيميائية. وكل ما يقال على غير هذا المستوى هو افتراض في غير محله، وتسييس لبناني للاتفاق لا اكثر. لكن هذا لا يعني ان الاتفاق ينال رضى الدول المناهضة لايران لاسباب تختلف عن رؤية واشنطن.

فهناك السعودية الطامحة الى موقع نووي، والتي تعتبر أن الاتفاق ليس محصورا في شقه النووي، وتنظر اليه على انه يعزز اوراق ايران (التي يشكل وجودها خطرا على الشرق الاوسط) في العراق وسوريا ولبنان. وسوء العلاقة بين الرياض وواشنطن الذي وصل الى مراحل متقدمة لا يعني ان البلدين على وشك تغيير حلفهما التاريخي، في ظل حاجة البلدين الى بعضهما البعض لاسباب عسكرية (حماية العسكريين الاميركيين للسعودية) واقتصادية ونفطية. ورغم ان السعودية فتحت قنوات اتصال عسكرية مع روسيا الا انه من المبكر القول ان الرياض في وارد استبدال حلفها مع واشنطن، ولو انها تعمل على تسريع وتيرة الاتصالات الخليجية عبر قمم مصغرة من اجل تطويق تداعيات الاتفاق على دول الخليج والعراق حيث تحاول تحقيق توازن استراتيجي مع القوة الشيعية.

بدورها، لا تميل واشنطن الى تغير بنيوي في علاقاتها مع دول الخليج. للرئيس الاميركي باراك اوباما اليوم جملة اولويات تتعلق بتمرير نصف الولاية الثانية بأقل الخسائر العسكرية الممكنة، من افغانستان الى العراق، واعادة ترتيب المنطقة على قاعدة ادخال ايران في التسوية الشرق اوسطية. وايران التي يريدها الغرب اليوم ليست ايران الحرس الثوري، بل الشيعية الاصلاحية. وهناك رهان اليوم على ان رفع العقوبات تدريجاً وفتح افق جديدة في التعامل مع طهران، من شأنه ان يرتد ايجابا على توسيع جمهور المعتدلين في ايران، وتالياً الوصول الى ربيع ايراني ناجح على غير ما انتهت اليه الحركة الاصلاحية اثر تجديد ولاية الرئيس السابق احمدي نجاد. وهذا امر يستحق من الغرب القيام بتسويات تاريخية يمكن ان تفتح الباب امام انضمام افرقاء آخرين اليها.

في المقلب الآخر هناك اسرائيل التي حاولت مع فرنسا وتقاطعت مع السعودية في رفض الاتفاق. ثمة تقارير غربية تتحدث بجدية عن تقاطع المصلحتين في رفض الاتفاق، ليس في شقه النووي، انما في ان يكون محاولة ايرانية تحت ستار صفقة تاريخية لتحويل اهتمام واشنطن عن المنطقة، وهذا يترتب عليه ترك الحرية لايران في لعب دور اساسي في العراق وسوريا ولبنان ما ينعكس على موقع حزب الله، وبدرجة مغايرة على وضع حماس. وهنا ايضا قد يكون لروسيا اعتراض جوهري على مستويين، ترك ايران في ساحة متوسطية ترغب روسيا في التأثير عليها، وامكان ان يؤدي ذلك الى تحويل اهتمام واشنطن الى مناطق اسيوية واوروبية على تماس مع روسيا التي بدأ رئيسها تحركا مكثفا في عدد من الدول المعنية.

لذا يخلص اصحاب هذه القراءة الى انه من المبكر وسط كل هذه التقاطعات الى القول ان هناك «توقعات غير متوقعة» من جراء هذا الاتفاق، ما لم تقل السعودية او اسرائيل كلمتهما. ومن السذاجة القول ان افتراقا اميركيا اسرائيليا تم، في وقت انطلقت التدريبات الجوية الاسرائيلية بمشاركة اميركية ولم يجف بعد حبر توقيع الاتفاق.

اين لبنان من المشهد الاقليمي الجديد؟

لا شك ان بعضاً من قوة 14 آذار اُخذ بالاتفاق الاميركي الايراني، تماما كما حصل معها حين الغيت الضربة العسكرية على سوريا، ولم تر فيه سوى عنوان الاتفاق. تماما كما ترى ان بقاء الرئيس الاسد في السلطة هو عنوان الخسارة ولا ترى ان سوريا الاسد اليوم غير سوريا الاسد بالامس. المشكلة ان تماهي هذه الشخصيات مع النظرة السعودية المتداخلة مع تقاطعات خليجية واسرائيلية واقليمية، وحتى اوروبية كفرنسا مثلا، جعلها تتعاطى مع الاتفاق على اساس انه انكسار مبكر للمشروع اللبناني المناهض لسوريا وايران، وليس على اساس انه رأس جليد في مشروع كبير قبل ان تأتي كلمة السر للترحيب به بتحفظ. في المقابل هناك شخصيات وتيارات اساسية في 14 آذار تتعاطى مع الاتفاق على انه كرس انصياع ايران للمجتمع الدولي خلافا لما كانت عليه حالها قبل اشهر، وبأنه دخول لايران في قلب التسويات وتحجيم لدورها الاقليمي ما سينعكس ميدانيا في ساحات نفوذها. لا بل ان خطاباً مختلفاً يسمع لدى هذه القوى لجهة ان واشنطن التي تعطي الاولوية لامن اسرائيل في المنطقة، حققت هذه الغاية مرة ثالثة بعد القرار 1701، وبعد سحب الترسانة الكيميائية السورية ومن ثم التخصيب الايراني النووي.

وبهذا المعنى فان هذه القوى، وخلافا للمتوقع، لن تتراجع عن موقفها من ايران وسوريا وحزب الله، بل هي ذاهبة الى التمسك بمواقفها ولن تتصرف على اساس انها خسرت معركة.