تفاقم خطر الميليشيات المسلحة في ليبيا، وتحديداً في العاصمة طرابلس الغرب، ومدينة بنغازي العاصمة الاقتصادية، وبلغت الأمور مرحلة الذروة بإقدام الميليشيات المسلحة على إطلاق النار على تظاهرات شعبية تطالب بالأمن ونزع السلاح في طرابلس وبنغازي ما أدى إلى مجزرة في وسط المدنيين ذهب ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى، وهو ما دفع أهالي بنغازي إلى الدعوة للعصيان المدني لإدانة العنف.

ويحصل ذلك في ظل عجز تام من قبل السلطة الليبية الناشئة منذ إسقاط نظام معمر القذافي، والتي تتخبط، وتعيش حالة من الارتباك بشأن سبل مواجهة سطوة الميليشيات التي يقدر المراقبون تعداد فصائلها في طرابلس وحدها بنحو ألف فصيل مسلح، ما يكشف حجم المشكلة التي تواجه الشعب الليبي الفاقد لنعمة الأمن والاستقرار. وبدا واضحاً أن تفجر الأزمة بهذا الحجم من الخطورة جاء في أعقاب سلسلة من التطورات والأحداث أبرزها:

1 ـ تزايد الشلل في مؤسسات الدولة نتيجة عجزها عن ممارسة سلطاتها في طرابلس.

2 ـ إقدام الميليشيات المسلحة على اختطاف رئيس الوزراء علي زيدان، ومن ثم إطلاقه، واقتحام بعض الوزارات للمطالبة بدفع الأموال لها.

3 ـ سيطرة الميليشيات على مناطق تصدير النفط والقيام ببيع النفط لشركات خاصة لحسابها الخاص، الأمر الذي حرم الدولة من الموارد النفطية، وتسبب بازدياد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية القائمة في البلاد، ومفاقمة الأزمة المعيشية للمواطنين.

4 ـ اشتداد التأزم السياسي بين القوى السياسية المتصارعة على السلطة، فيما العديد من القوى التي شاركت في البداية في تولي المسؤوليات بعد إسقاط نظام العقيد القذافي قدمت استقالاتها نتيجة هذه الصراعات، الأمر الذي فاقم من أزمة السلطة، وعجزها عن ممارسة الحكم وفرض النظام العام.

أمام هذه التطورات الأمنية والسياسية، وتفاقم الأزمة على كل المستويات، بات الليبيون يواجهون سلسلة تحديات:

التحدي الأول: سبل التخلص من الميليشيات المسلحة التي تفرض سلطات الأمر الواقع في المدن والمناطق على حساب سلطة الدولة، وقد أقر الناطق باسم رئاسة أركان الجيش الليبي علي الشيخي بوجود جيوش جهوية في كافة المناطق تتلقى الأوامر من أعيان القبائل بعيداً عن وزارة الدفاع.

التحدي الثاني: استشراء خطر التيارات الإسلامية المتطرفة، لا سيما جماعة أنصار الشريعة التي تعتبر فرع القاعدة في ليبيا والتي أطلقت النار على المتظاهرين في بنغازي، وتسعى بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين لإسقاط الحكومة، وهو ما أكده رئيس الحكومة زيدان في مقابلة تليفزيونية.

التحدي الثالث: كيفية بناء جيش ليبي وطني وإعادة بناء مؤسسات الدولة التي يشكل ضعفها أحد أهم الأسباب التي تجعل الميليشيات المسلحة تتجرأ عليها وترفض نزع أسلحتها.

الواضح أنه في مواجهة هذه التحديات برز اتجاهان:

اتجاه رسمي ويتبناه رئيس الحكومة ويدعو إلى طلب مساعدة الغرب لتجريد الميليشيات من سلاحها، وتمكين الجيش الليبي، الذي يجري تكوينه أيضا بمساعدة خارجية غربية وعربية، من السيطرة على الوضع الأمني، وهذا يعني تشريع دخول قوات غربية إلى البلاد للقيام بهذه المهمة.

واتجاه ثان: وتتبناه القوى الوطنية، وعموم الشعب الليبي، والداعي إلى تكاتف الليبيين وبلورة إرادة وطنية شعبية لوضع حد لسلطة الميليشيات بعيداً عن طلب المساعدة من الغرب، خاصة بعد تجربة التدخل الغربي في إسقاط حكم القذافي ونتائجها المدمرة التي أدت إلى تدمير الدولة وتفكيك الجيش الليبي وانتشار الفوضى، وبروز ظاهرة الميليشيات المسلحة واستفحال خطر الجماعات المتطرفة (القاعدة).

من خلال تفحص الوقائع والمعطيات، يتبين أن هناك خطة يجرى نسج خيوطها في الكواليس، وتستهدف تشريع البلاد أمام غزو عسكري غربي لكن بطلب رسمي تحت عنوان تخليص ليبيا من خطر الميليشيات المسلحة التي دعمتها الاستخبارات الغربية لاسقاط القذافي ودفعتها، أو تركتها تتمادى في العبث بأمن الليبيين، وعرقلة بناء دولتهم بهدف إيصالهم إلى مرحلة من اليأس والإحباط تدفعهم إلى قبول طلب المساعدة الغربية العسكرية والأمنية للتخلص من سلطة الميليشيات التي تعبث بأمنهم واستقرارهم، وتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق.

وجاءت زيارة زيدان إلى لندن واجتماعه مع وزراء خارجية أميركا جون كيري،وبريطانيا وليام هيغ لتؤكد ذلك، حيث طلب زيدان مساعدة واشنطن ولندن للتخلص من الميليشيات.

وقد أبدى كيري وهيغ استعدادهما لمساعدة ليبيا على استعادة استقرارها، وقال كيري «تحدثنا مع رئيس الحكومة في الأمور التي يمكن أن نقوم بها معا، بريطانيا والولايات المتحدة، وأصدقاء آخرون، لمساعدة ليبيا على عودة الاستقرار الذي تحتاجه».

ولا شك في أن واشنطن ولندن متحمستان لتقديم المساعدة العسكرية والأمنية لحكومة زيدان، لأنهما تريدان قطف ثمار إسقاط نظام القذافي والفوضى الخلاقة ـ الهدمة التي أحدثها التدخل الغربي عبر الإشراف على إعادة تركيب النظام الليبي بكل مؤسساته على نحو يثبت وجود القوى الموالية للغرب في الحكم الجديد، والتي لديها الاستعداد لتنفيذ السياسة الغربية، وإبقاء ليبيا تدور في فلكها، وبالتالي توفير المناخ المواتي الذي يمكن الشركات الغربية من السيطرة الكاملة على عمليات استخرج وتسويق، وتصدير النفط والغاز من ليبيا إلى الخارج، وهذا ما يفسر لماذا أبدى كيري وهيغ الحماس لتقديم المساعدة لحكومة زيدان، فلعاب واشنطن ولندن يسيل تجاه النفط الليبي ذي الجودة العالية والقريب من أسواق الغرب.

من هنا فان ليبيا تواجه خطرا حقيقياً بإعادة إخضاعها للاستعمار الغربي، وهو ما يلقي على القوى الوطنية، التي تسعى لاستقلال ليبيا، والحفاظ على ثرواتها من الاطماع الاستعمارية مسؤولية مواجهة هذا المخطط الغربي والعمل على احباطه.

فالتخلص من الميليشيات المسلحة على أيدي قوى الاستعمار الغربي سيكون ثمنه إعادة ليبيا إلى عهود الاستعمار الغابرة، وما يعنيه ذلك من فقدان ليبيا استقلالها، وقدرتها على التحكم في ثرواتها،وضياع فرصة بناء الدولة الوطنية المستقلة التي تستطيع إرساء أسس التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية عبر الاستفادة من عائدات النفط والغاز.