ما أن استقرّت تشكيلة حكومة الرئيس تمام سلام على أسمائها، حتى ضرب كثيرون أخماسهم بأسداسهم، محاولين استكشاف التوازنات الطارئة على الحكومة الجديدة، لتحديد من هو الخاسر والرابح من طرفي الخصام الداخلي المستعر منذ سنوات عدة، خصوصاً أن ما جرى التوصل إليه على الصعيد الحكومي يرجعه كثيرون إلى "المناخات" الدولية والإقليمية التي فعلت فعلها في دفع الأطراف اللبنانية للوصول إلى هذه التسوية السياسية التي تجمع القوى الأساسية في البلد في حكومة واحدة، انتظاراً لاستحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، الباقي في مهب رياح الداخل والخارج.

والواقع أن النقاشات في هذه المسألة سبقت ورافقت وتلت التشكيل الحكومي، وسجلت وقوع خسائر فادحة لأطراف قوى 14 آذار، خصوصاً للتيار الأقوى فيها "المستقبل"، ولم يكن اعتكاف حزب "القوات" عن المشاركة في الحكومة إلا أحد وجوه التعبير عن هذه الخسائر.

معنوياً، خسر "تيار المستقبل" بتراجعه وحلفاءه، عن موقفهم الصادح بالصوت العالي بأنهم لن يشاركوا في حكومة مع "حزب الله" ما لم يسحب الحزب مقاتليه من سورية.. كما تراجعوا عن مطالبتهم بحكومة حيادية حيناً، وغير سياسية حيناً آخر، وأمر واقع في حين ثالث.

سياسياً، دخول تمام سلام نادي رؤساء الحكومات من بابه الواسع، خسارة بكل المعاني لـ"الحريرية السياسية"، بما يعنيه استبعاد رموز "تيار المستقبل" عن رئاسة الحكومة، والاستعاضة عنهم بحلفاء سبق لآل الحريري أن أقفلوا لهم بيوتهم السياسية، خصوصاً في بيروت، التي تشكو الطارئين عليها الذين ينتزعون تمثيلها، و"المستقبل" لم يُشفَ بعد من جرح تكليف "حليفه" السابق نجيب ميقاتي، ولم ينسَ اللبنانيون "يوم الغضب" الذي أطلقه "المستقبل" في وجه ميقاتي.

في الإدارة، وتحت شعار "المداورة"، استعاد الرئيس نبيه بري وزارة المال من "المستقبل"، التي استطاعت "مونة" الرئيس رفيق الحريري انتزاعها منه منذ عشرين سنة، وبذلك استعاد بري "التوقيع الإلزامي الثالث" على كل معاملات الدولة.

في العسكرة، حاول "تيار المستقبل" الموازنة بين "حزب الله" وسلاح المقاومة من جهة، وبين القوى التكفيرية التي دعمها "التيار" سابقاً، للقول بوجوب الخلاص من الطرفين معاً.. هذه الخطة سقطت سقوطاً مريعاً، ليس فقط لأن "حزب الله" أقوى من أن تلغيه الحسابات الداخلية، بل لأن المرحلة القائمة تشهد حالة رعب من القوى التكفيرية تعمّ العالم بأكمله، وفي مقدمها الدول التي دعمت وموّلت وسلّحت هذه القوى التي تمارس الإرهاب في أكثر من بلد، وهذا ما دفع رئيس الحكومة الجديد إلى وضع هدفيْن رئيسييْن لحكومته: "مواجهة الإرهاب، وتنفيذ الاستحقاقات الدستورية"، وقد تبوّأ "حزب الله" مكانه المتقدم في محاربة الإرهابيين الذين يشوّهون صورة الإسلام والمسلمين.

وكما تراجع في السابق كل من اتخذ موقفاً سلبياً من الحزب والمقاومة قبل التحرير عن موقفه، وأخذ يشيد تزلفاً بالمقاومة، سيكون قريباً ذلك اليوم الذي يقف فيه المعادون "لحزب الله" يستجدونه لأن يكمل ما بدأه على المناطق الحدودية مع سورية، حماية للبنان واللبنانيين.. وهكذا، ينقلب الابتزاز الحريري على صاحبه، وها هو "الشيخ سعد" يتبرأ من "القاعدة" وأخواتها، ولو على قاعدة "مرغم أخوك...".

هذا المعطى الجديد سيكون عاملاً مضافاً إلى حاجة لبنان إلى المقاومة وسلاحها لحماية أرض لبنان وثرواته مياهاً ونفطاً، بانتظار أن تتمكن الدولة من تسليح الجيش ومضاعفة عديده ليصبح قادراً على مواجهة جيش العدو "الإسرائيلي".

في الاقتصاد، لا بد من تسجيل أن "الحريرية" هي مشروع استثمارات اقتصادية، رمزها "سوليدير"، أما السياسة فتأتيها من خلال تقاطعاتها الاستثمارية والمالية، ونجاح العماد ميشال عون بإبقاء حقيبة وزارة "النفط" مع كتلته، هي خسارة كبيرة تضاف إلى مسلسل الخسائر الحريرية.

أما لجهة الحقائب، فإن حزب أمين الجميل أكمل منهجه التاريخي في وراثة الأقارب والأصحاب، ونال حصته وحصة "القوات" في الحكومة، رغم إصراره الدائم على التمايز عن تحالف 14 آذار في أكثر المحطات الهامة، في حين "تورّط" المستقبليون بوزارات ستكون حجة عليهم وليست قوة لهم، لأن إرهاب التكفيريين مستمر ومكافحتهم تتصاعد، ولوزارتي الداخلية والعدل (والاتصالات التي نالها بطرس حرب) موقع الصدارة في هذه الحرب المعلنة على الإرهاب، في ظل وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، ووزراء "المستقبل" في هذه المواقع أمام خيارين أحلاهما مُر: إما الاشتباك مع القوى التكفيرية والمدافعين عنها، وإما إعلان الفشل والإفلاس السياسي أمام اللبنانيين، من دون أن ننسى التململ البيروتي من حصر تمثيل مسيحيي بيروت بالنائبين فرعون ودوفريج، لرمزيتهما في "جمعية تحسين نسل الجواد العربي"، التي لو كان لبلدية بيروت صوت لارتفع مطالباً بأملاك البلدية في أرض سباق الخيل، والتي تستغلها الجمعية لمصالحها الخاصة.