سافر رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى مؤتمر باريس خالي الوفاض. كان يريد أن يحمل في جيبه حكومة تلبّي المواصفات التي طلبتها "مجموعة الدعم الدولية للبنان"، التي اهتمت بشطب التبني الرسمي للمقاومة، واعتماد "إعلان بعبدا"، بما ينقل لبنان نظرياً إلى ضفة المشروع الأميركي - "الإسرائيلي" الذي ينضوي فيه عرب النفط والغاز.

كان من الممكن أن يسافر سليمان متأبّطاً هذا الإنجاز الحكومي، لكن يبدو أن ما تريده "المجموعة الدولية" من لبنان لم ينضج بعد، لذلك كان التصعيد السياسي بالهجوم على المقاومة، ووصفها بـ"الخشبية"، ما عطّل مساعي التوافق للوصول إلى صيغة تسهّل إعداد بيان وزاري يتيح لـ"الحكومة السلامية" المثول أمام المجلس النيابي ونيل ثقته.

وللعلم، فإن "مجموعة الدعم للبنان" هذه، التي "تهتم بلبنان" حالياً، والتي اجتمعت خلال اليومين الماضيين في باريس، واضعة لبنان على مذبح خياراتها ومشاريعها، هي ذاتها العصابة المسماة "مجموعة أصدقاء سورية" التي يشرف عليها ويديرها الحلف الأميركي - "الإسرائيلي"، وتموّلها المملكة السعودية ومشيخات الغاز المجاورة لها، وهي التي شاركت في الحرب على سورية، وموّلتها، ناشرة فيها الدمار والقتل، وسرّبت إليها كل محترفي الجريمة باسم الإسلام، بعد أن احتضنتهم تلك الدول عشرات السنين، على الرغم من الحضور الشكلي لوزير خارجية الاتحاد الروسي سيرغي لافروف، في "عراضة" كان مقرراً لها أن تبتهج بالحكومة اللبنانية الجديدة، لصرف دفعة من الأموال والمساعدات الدولية للنازحين السوريين والجيش اللبناني، عن طريقها، شرط أن تكون نالت ثقة البرلمان اللبناني، لكن ما قاله سليمان بحق المقاومة جعل الفرحة لا تتم.

وبرأي أوساط متابعة، فإن لخطاب الرئيس سليمان تداعيات واسعة، لن تقف عند ردورد الفعل الحالية، إذ إن تساؤلات جدية ستُطرح بعد اليوم حول شخصية أي رئيس جديد للبلاد، فهل يمكن تصديق أن رئيس جمهورية ما بعد الطائف، والذي لم يجد مقراً لرئاسته، فارتضى أن يسكن في شقة، ووسط كبار حتى تتم زيادة مصاريف هذا المقر، يمكن أن يتحول الآن، كموقع، إلى متهجّم على المقاومة، التي لولاها لما بقيت رئاسة ولا سيادة ولا وطن، بل كان لبنان بقي رهينة لاتفاق 17 أيار المشؤوم وتوابعه؟ وبالتالي ستسأل الناس من المسؤول عن هذا التبدل في التوازنات، ليس لتكريس ضعف مسيحي، إذ إن المسيحيين ليسوا في أحسن حال، على الرغم من هذا الخطاب الرئاسي الاستفزازي الذي يرفع منسوبه مسيحيو "14 آذار"، بل لأن وصول شخصية إلى سدة الرئاسة قيل إنها وقّعت على تعهدات خطية، أبرزتها في بيان القسم، فإذ بها تنقلب على التعهدات وعلى القسم، فبمن يتم الوثوق بعد اليوم؟ وإلى متى يتم السكوت عن التفريط وعن عدم مساءلة المخطىء؟ ومن المسؤول عن تراكم الاخطاء؟ ولو تماثلنا بعدوّنا "إسرائيل" فإنها حاسبت المخطىء أولمرت قبل نهاية عدوانه على لبنان، وأنشأت له "لجنة فينوغراد" التي أطاحت به! وبالتالي ليس عيباً أن يطالب الناس بالمحاسبة والمساءلة بعد الأخطاء الفظيعة التي تعترف بها قيادات الثامن من آذار قبل غيرها.

وتنبّه الأوساط إلى أن جميع من تبوّأ السدة الرئاسية في لبنان، باستثناء الرئيس إميل لحود، بدأ بخطاب وطني جامع، وانتهى بخطاب طائفي، إذ إنهم كلهم يريدون الخروج أبطالاً طائفيين، بما يفسح مجالاً لزعامة متوهَّمة يريدونها، وتسأل: لماذا بات موقع قيادة الجيش ممراً إجبارياً للوصول إلى قصر بعبدا؟ وهل هذا هو شرط "الرئيس القوي"؟ وهل قوته ضد الخارج أم ضد شركاء الداخل؟

اللافت أن أوساط الرئيس سليمان سرّبت أن الخطاب محضَّر منذ ما قبل أسبوع على إلقائه، ما يعني أنه ليس رداً على العُقد التي واجهت البيان الوزاري، بل هي قناعات لديه، ومشروع سياسي لما بعد خروجه من قصر بعبدا!

في كل الأحوال، تواصل قوى الرابع عشر من آذار، التي انحاز إليها الرئيس سليمان، العيش على المراهنات الخاسرة، التي لم تحصل منها سوى الخيبات، ليس لأنها لا تحسن قراءة التطورات فقط، بل لأنها مرتبطة بالأحلام السعودية الساعية "بكل أموالها" لتغيير وقائع الميدان التي تؤكد خسارتها المعركة في سورية، خصوصاً أن لا عودة للأميركي عن قراره بالتراجع عن الخيار العسكري، حتى لو ظن هؤلاء أن الروس منشغلون بالأزمة الأوكرانية، فإن القوة الإيرانية المتعاظمة تدفع الأميركي و"الإسرائيلي" ليحسبا ألف حساب لأي تحرك أحمق قد يقدمان عليه، وما عجِزَ "الإسرائيلي"، والأميركي من خلفه، عن تحقيقه بالتخلص من المقاومة، لن يقوى عليه أتباعهم في لبنان، مهما ارتفعت أصواتهم وتلوّنت خطاباتهم.