يفتتح الرئيس نبيه بري، الاسبوع المقبل، مرحلة الانتخابات الرئاسية لاختيار رئيس جديد للجمهورية. اما الموارنة الذين يفترض ان يكون همهم الاول تأمين الاستحقاق، فغارقون في بورصة الترشيحات

قبل انتهاء جلسات منح الثقة للحكومة، كان الرئيس نبيه بري ينام على ورقة الاستحقاق الرئاسي، ولا يقول كلمته فيه، مكتفياً باجابة كل من يراجعه في آفاق الانتخابات الرئاسية، بانه ينتظر 25 آذار. في مفكرته موعد واحد: بدء المهلة الدستورية، وما بعد هذا الموعد، يفتح رئيس المجلس النيابي الملف على قاعدة انه الناخب الاول.

يعرف بري تماماً اين تقع منزلته بين رئيسين، لا دور لهما في تهيئة الاستحقاق. فقبل شهرين من انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، لا كلمة مسموعة له في انتخاب الرئيس الجديد، ولا في غربلة الاسماء ولا في دعم خليفة محتمل له، او حتى في صياغة مستقبل الجمهورية. وكما هي حال سليمان، كذلك هي حال رئيس الحكومة تمام سلام، الذي ينحصر دوره في الانتخابات، اذا جرت، بصوته الذي يدلي به نائبا عن بيروت في صندوق الاقتراع، او بادارة مرحلة الفراغ المحتمل بالتقاسم مع بري.

وبين الرئاستين الاولى والثالثة، يسعى بري الى أداء الدور الاول على المسرح السياسي، وصانع الحدث الرئاسي. في العرف، دور رئيس المجلس النيابي الدعوة الى عقد الجلسات، لا اكثر ولا اقل، وفي عهود الانتخابات الرئاسية التقليدية، كان دوره ينحصر في اداء مهمة تلقائية تستوجب تحديد موعد الجلسات وترؤسها. لكن بري حوّل الدور الدستوري التقليدي، اكثر من مرة، الى دور الشريك المضارب في اجراء الانتخابات. هكذا كانت حاله يوم فرغ القصر الرئاسي في بعبدا بعد خروج الرئيس اميل لحود، ويوم رفع البطريرك الماروني الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير، بناء على رغبة دولية، لائحة بأسماء المرشحين للرئاسة، ويوم اتفق على سليمان في الدوحة.

وبدءاً من الاسبوع المقبل، يستعيد بري الدور المحبّب اليه: تزعم قيادة مرحلة اساسية من تاريخ البلد، وجوجلة اسماء المرشحين واستمزاج الاراء المتعلقة بنصاب حضور الجلسات الانتخابية والانتخاب، رغم ان موقفه محسوم من الامرين. وهو بذلك يرسم معالم الاسابيع المقبلة، قبل ان تحين مهلة الايام العشرة التي تسبق موعد انتهاء ولاية سليمان. ويؤدي الدور نفسه الذي كرسه سابقا، حين اخرج ورقة تأليف الحكومة من جيبه، يوم اتخذ القرار الاقليمي بتأليف الحكومة في ساعات. وكذلك الامر حين قدم نفسه منقذا للحكومة الضائعة بين سطور البيان الوزاري، من خلال صوغ عبارة رديفة لثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.

وهو، كما يقول المتصلون به، لن يقارب الاستحقاق الا من باب جس النبض لا اكثر ولا اقل، لجهة مواعيد الجلسات والنصاب، مستمعا مباشرة او عبر موفديه الرسميين الى اراء جميع القيادات السياسية والكتل النيابية، ولن يدخل في المرحلة الاولى في لعبة الاسماء والمرشحين، قبل ان تنقشع الضبابية الاقليمية والدولية حيال اجراء الانتخابات او عدمها. فحين يتبلور اتجاه المنطقة، تتضح اتجاهات الرئاسة وشخصية المرشح، واحتمالات الذهاب الى معركة او توافق.

وعند هذه النقطة يتقاطع دور بري مع النائب وليد جنبلاط، الناخب الثاني، الذي يؤيد التوافق المسبق على اسم الرئيس. فهو يخشى ان يكون بيضة القبان في اي معركة (بعد الدورة الاولى التي يرجح انها لن تشهد انتخابا للرئيس) تتطلب منه الحسم بأصوات كتلته بين المرشحين. يسعى جنبلاط الى تفادي وقوعه في مثل هذا المأزق، لذا يعمل جاهدا لتسويق فكرة المرشح التوافقي، وهو لا ينفك يردد انه منحاز الى هذا الخيار، فلا يضطر تحت وطأة اي ظرف الى المفاضلة بين شخصيتين مارونيتين من 8 و14 يرفض ويخشى في الوقت ذاته وصول اي منهما الى بعبدا.

والمشكلة، هنا، انه فيما ينهمك بري وجنبلاط في الاعداد لمرحلة الاستحقاق الرئاسي، تكبر الخشية داخل الاوساط المسيحية المعنية من الا يتمكن الموارنة من أداء دور الناخبين في الاستحقاق، ما دامت قياداتهم من «كبيرها الى صغيرها»، مرشحة لرئاسة الجمهورية، ولا تعمل الا وفق برنامج ترشيحها، ولا تضع في حسابها ولو لحظة واحدة احتمال الا تصل الى كرسي الرئاسة.

في الوسط السياسي، اليوم، كثير من الاخبار والروايات عن مرشحين من درجات ثانية وثالثة ورابعة، يتحدثون بثقة عن الاحتمالات المرتفعة لفوزهم في الانتخابات، ويبنون احلاما للعهد الجديد. واذا كان هؤلاء لا يمثلون مشكلة، بالمعنى السياسي الحقيقي، فان ثمة مشكلة اكبر تكمن في الخشية من جنوح بعض قيادات الصف الاول، الى التعاطي بملف الانتخابات على اساس انها مرشحة فقط، لا ناخبة. بمعنى المفاضلة بين الاستحقاق والشخص اذا حكمت اللعبة الدولية والاقليمية انجاز الاستحقاق الرئاسي مهما كلف الامر، كما كان حال الحكومة. او حتى العكس تماما.

ثمة هواجس من ان يضيّع الموارنة بوصلة الاتجاهات، كما حصل مع قانون الانتخاب ومن ثم التمديد للمجلس النيابي، فيطير الاستحقاق الرئاسي وهم غافلون عنه ومشغولون بلعبة الاسماء، وهي لعبة مشروعة وديموقراطية، ان لم يكن سيف الفراغ الرئاسي قد اصبح مصلتاً على نحو دائم حول كرسي الرئاسة الماروني. وهناك مخاوف جدية من احتمال عدم نزول نواب مسيحيين الى المجلس النيابي، والذهاب نحو «تدمير» الاستحقاق وعدم تأمين النصاب، ان لم تكن النتيجة محسومة مسبقا لمرشحيهم. وثمة هواجس من ان تذهب القيادات الاسلامية الى اختيار التوافق بدلا من الفراغ، فيما يتمسك الموارنة بالاسم لا بالاستحقاق.

بين ان يكون الموارنة ناخبين ومرشحين، او مرشحين فقط، فرق كبير. ومحاولات التقرب من هذا الفريق او ذاك، ستبقيهم مرشحين لا ناخبين. ففي زمن الانشغالات الكثيرة بالاسماء والاحلام، المطلوب واحد: ان ينجز الموارنة الاستحقاق الرئاسي، فلا يتكرر مشهد خروج لحود من قصر بعبدا من دون خلف.