من يراقب المشهد السياسي التركي لابد له أن يلاحظ المسار الانحداري لرئيس الوزراء التركي، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم رجب اردوغان، والنابع من خسارة رهاناته في الوصول إلى سدة الرئاسة الأولى مدعما بإصلاحات دستورية تجعله حاكماً فعلياً، وليس حاكماً بروتوكولياً كما هو حال عبد الله غول. وفوق ذلك، فان اردوغان بات اليوم يصارع لأجل الاحتفاظ بمركزه في رئاستي الحزب والحكومة،

وهو بانتظار ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات البلدية المقبلة، وكذلك الانتخابات النيابية التي تليها لمعرفة حجم التراجع في شعبيته، وما إذا كان قادراً على الاحتفاظ بزعامته، وبالتالي دفع حزبه إلى إجراء اصلاحات داخلية تسمح له بإعادة انتخابه لولاية ثالثة واستطراداً البقاء في رئاسة الحكومة.

ولهذا يبدو اردوغان هذه الأيام في وضع من يصارع من اجل تعويم شعبيته وتحسين صورته المتصدعة، وهو يدرك أن الأمر ليس بهذه البساطة ويحتاج إلى جهود جبارة، إذا لم نقل إلى معجزة، بسبب صعوبة واستحالة تجنب تجاوز الازمات التي تفجرت في مواجهته، وتداعياتها السلبية على شعبيته، وعلى الانتخابات التي ستجري في 30 مارس الجاري، وهذه الازمات تتمثل في ثلاث:

اولاً: تصاعد الصراع بين اردوغان، وجماعة عبدالله غولين والذي اتخذ طابعاً حادا لم يسبق له مثيل خاصة وأن غولين يرأس جماعة دينية متغلغلة في قلب المجتمع التركي، وحزب العدالة، وداخل مؤسسات الدولة لا سيما منها الأمنية، والقضائية والتعليمية، وشكلت بتحالفها السابق مع حزب العدالة سنداً اساسياً لهذا الحزب في معاركه الانتخابية السابقة التي مكنته من حصد نتائج متقدمة في البلديات والبرلمان وفرت له القدرة على الاستئثار لمفاصل السلطة على كل المستويات، التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية وصولا إلى حسم الصراع مع المؤسسة العسكرية، وإجراء التعديلات الدستورية التي مكنته من تكبيل هذه المؤسسة، واعتقال قادتها المعارضين لسياسات اردوغان.

فجماعة غولين، وبسبب نفوذها الواسع، تمكنت من كشف الكثير من فضائح الفساد الغارق فيها أعضاء في حزب العدالة، ووزراءه في الحكومة، وكذلك تسريب تسجيل صوتي لاردوغان نفسه يفضح تورطه في التدخل لدى الصحافة لمنع نشر أخبار.

ويأتي ذلك في وقت يبدأ فيه البرلمان في الاستماع إلى قضية الفساد المتهم فيها أربعة وزراء سابقين، وكذلك مناقشة فضيحة الكسب غير المشروع المتهم فيها أبناء ثلاثة وزراء.

وإذا كان ذلك يعكس مدى القوة والنفوذ اللذين تحظيان بهما جماعة غولين، إلا أنه يؤشر إلى أن هذه الجماعة قد قررت إشهار كل الأسلحة التي تملكها لأجل تحطيم وإضعاف اردوغان. لاسيما وأن فضح قضايا الفساد بمليارات الدورات ما كان ليحصل لولا انفراط عقد التحالف بين اردوغان وغولين.

وعلى الرغم من أن اردوغان يحاول القيام بهجوم معاكس لرد التهم عنه، إلاّ أنه لم يستطع انكار بعض التسجيلات المسربة، ما يؤشر إلى وجود تسجيلات لدى جماعة غولين لآلاف الأشخاص من المسؤولين الكبار في الدولة تتعلق بكل شاردة وواردة داخل الدولة التركية.

ولهذا فان الصراع اليوم بين غولين واردوغان يتخذ منحى مصيريا، لكلا الجانبين، فاردوغان يدافع عن مستقبله السياسي، ومستقبل حزبه الذي يستمد منه قوته، وغولين بالمقابل يسعى إلى حماية نفوذه بالدولة والاحتفاظ بقوة جماعته وحرية عملها، ولهذا فان غولين يعمل على الدفع باتجاه فضح المزيد من الخفايا التي تتهم اردوغان بالفساد وصولاً إلى مثوله أمام القضاء بهذه التهم الخطيرة.

ثانياً: التصدع داخل حزب العدالة والذي يسهم في إضعاف موقف اردوغان، وحزبه عشية الانتخابات. فهناك احتمال بأن يستقيل حوالي 50 نائباً من حزب العدالة لتكوين تحالف مع حزب الحركة القومية بهدف تشكيل حكومة جديدة، ما يعني، إذا ما تم ذلك، حصول تحول في موازين القوى داخل تركيا، سيكون لها انعكاسات مباشرة ليس فقط في إضعاف قوة حزب العدالة، وإنما ايضا في إحداث تغيير في السياسة التركية الداخلية والخارجية، وما يعزز ذلك نشوب خلاف بين رئيس الجمهورية عبدالله غول واردوغان، حيث يسعى غول إلى الحصول على منصب رئاسة الحكومة ولهذا لا يريد أن يبقى اردوغان في رئاسة الحكومة، في إطار اتفاق سابق بين الجانبين على تبادل المواقع.

ثالثا:اتساع الهوة في المواقف بين اردوغان، وحزب العمال الكردستاني، وبالتالي فشل محاولة اردوغان استمالة أكراد تركيا لتعديل موازين القوى الداخلية، عشية الانتخابات بعد أن اخل باتفاقه مع عبدالله أوجلان، ولم يعد يملك أي مصداقية، لا سيما وأن اردوغان يناور مع حزب العمال في تركيا ويحارب الأكراد في سوريا، وبالمقابل يتعامل مع رئيس إقليم كردستان في العراق مسعود البرزاني كرئيس دولة في سياق اللعب على التناقضات الكردية وتوظيفهم في مشروع تدعيم سلطته وقوته في مواجهة معارضيه في الداخل التركي، والذين لايقتصرون على جماعة غولين، وانما يشملون ايضا حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وغيرهم من الاحزاب اليسارية، وصولا الى استعداء اردوغان المكونات هامة من الشعب التركي بسبب سياساته الفئوية الطائفية والمذهبية.

انطلاقاً مما تقدم يمكن القول أن اردوغان في حالة لا يحسد عليها فالأزمات تطوقه من كل الجهات، من الداخل والخارج، فيما حليفته واشنطن لم تعد متحمسة لبقائه والدفاع عنه خاصة وأن لديها حليفا بديلا هو عبدالله غولين، ولهذا فان محاولة اردوغان كسب ود المؤسسة العسكرية عبر اطلاق سراح العشرات من العسكريين لن تكون قادرة على إقناع خصومه بالوقوف إلى جانبه بعد تجربتهم المرة معه، والتي تؤكد عدم إمكان الركون إلى مواقفه المتقلبة حسب مصالحه، لاسيما أن مثل هذه المحاولة لا تأتي في سياق تغيير في نهجه، وإنما اتخذها مكرها تحت ضغط الحاجة إلى حماية موقعه في السلطة وتعويم شعبيته المتراجعة إلى نسبة 35% بعد أن كانت قد وصلت في ذروة قوته إلى 50%، ولهذا فان جميع المراقبين بانتظار انعكاسات هذا الصراع الحامي الوطيس بين اردوغان وخصومه على نتائج الانتخابات البلدية لمعرفة المستوى الذي باتت عليه شعبية حزب العدالة، وبالتالي نسبة تراجعها، ومستوى انعكاساتها على المشهد السياسي والتحالفات المقبلة.