حالة امتعاض تشهدها أروقة بعض الوزارات اللبنانية في الآونة الأخيرة. فموظفوها باتوا يشعرون بأن نوعاً من الغبن يلحق بهم بعد أن "طفح كيلهم" من وجود موظفين من خارج الإدارة، يشاركونهم مكاتبهم، ويتمتعون بكفاءتهم، لكنهم يتقاضون أجوراً مرتفعة جداً، فيما الممول واحد: الدولة اللبنانية.

صندوق أسود جديد؟

الجدير بالذكر هو أن هؤلاء الموظفين الذين أتوا من خارج الملاك، دون المرور بمجلس الخدمة المدنية، يتبعون إلى "​برنامج الأمم المتحدة الإنمائي​ UNDP"، الذي لا يتردد أحد موظفي الدولة الذين التقيناهم بتسميته بـ"الصندوق الأسود الجديد" في لبنان. فملايين الدولارات باتت تحول منذ سنوات من خزينة البلاد إلى تلك المنظمة الدولية لكي تقوم بمشاريع محدّدة، فيما تؤجل الدولة إقرار قوانين تحسّن من خلالها عملها الإداري: كملء الوظائف الشاغرة، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب، وتحسين ظروف العمل في القطاع الرسمي، بحجة عدم توفّر الأموال الكافية.

وفي هذا الإطار، يشرح أحد الناشطين البيئيين المتابعين لملفات وزارة البيئة أن بعض المشاريع باتت تمرّ بالـUNDP لمصلحة معارف بعض الوزراء، متسائلاً: لماذا تم تحويل 6 ملايين دولار للـYMCA لمراقبة المقالع والكسارات بأموال الوزارة من خلال هذه المنظمة الدولية، علماً أن تلك الجمعية لا تعنى بهذا النوع من الرقابة؟ ويقول: "فقط لأن أحد المسؤولين فيها كان من مستشاري الوزير".

لخدمة لبنان فقط

ما جرى في وزارة البيئة، وما يجري في وزارات أخرى في لبنان، كوزارة المالية مثلاً، دفع بأحد الموظفين إلى التأكيد بأن هناك نوعاً من العلاقة الزبائنية بين الوزراء وهذه المنظمة، يمكنهم من خلالها توظيف من شاؤوا برواتب عالية دون المرور بالبيروقراطية الإدارية اللازمة، وهذا الأمر يؤدي في بعض الأحيان، بحسب ما يؤكد، إلى توظيف الشخص غير المناسب للإشراف على بعض المشاريع الحساسة، تماماً كما تم تسليم مهندس صناعي لمتابعة مشروع حول الطيور المائية المهاجرة.

وهنا، ينفي المدير الوطني لبرنامج الامم المتحدة الانمائي ​لوكا ريندا​ بشدّة اتهام البرنامج بالزبائنية، مشدداً على أن "وظائفنا كلها تنافسية". ويعتبر أن "فكرة الإتكال على منظمة للأمم المتحدة لكي يوظف الوزير من يشاء ولكي يلتف على وسائل التوظيف في الإدارة اللبنانية، لا معنى لها". ويستغرب ريندا وجود هذا الإمتعاض لدى بعض الموظفين، مؤكداً أن أصداء عمل البرنامج إيجابية جداً. ويشدد على أنه لم يتلق أي شكوى من أحد "خلال تواصله الكثيف جداً مع المسؤولين والوزراء". ورداً على سؤال حول استفادة الوزراء من المنظمة وبالتالي عدم وجود المصلحة لديهم بإرسال أي شكوى يقول: "الوزير هو في نهاية المطاف أعلى سلطة في الإدارة اللبنانية".

ويركز على اعتبار الدور الذي يقوم به البرنامج دورا خدماتياً صرفاً، مشيراً إلى أنه "قد طُلب من منظمتنا أن تساهم في الدعم التقني الناقص في بعض القضايا، مقدمة بذلك خدمة للبنان. وفي معظم الأحيان، هذا الأمر يتعلق بتوظيف أشخاص ذوي كفاءة عالية، والذين، لسبب أو لآخر، ولأسباب معروفة من الجميع، ونتيجة صعوبات لملء الشواغر، ولأمور تتعلق بسلّم الرواتب اللبناني، لا يمكن للدولة أن توظفهم بمستواهم العالي. وفي هذا الحقل يعمل برنامجنا اليوم عبر تشكيل فرق عمل داخل هذه المؤسسات لتأمين مضمون تقني عالٍ للوزير وفق مخططات عمل محددة، وتمتد مشاريعناعموماً من سنة إلى ثلاثة سنوات. وقد تم تقييم هذا التعاون مراراً، وليس فقط من جهات خارجية، وقد جرى آخر تقييم عام 2012 عندما تم تشكيل فريقاً وزاريا مؤلفاً من الوزارات حيث يعمل البرنامج، إلى جانب وزارة العمل وبرئاسة وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية آنذاك، وأثنى الجميع على دورنا، ولكن جرى التشديد على ضرورة إيجاد استراتيجية خروج لهذه المشاريع". ويتابع: "نحن اجرينا تقييما خارجيا محايدا ونرى ذلك ضرورياً أيضاً، على أن يتم التفكير بطريقة ما، تضم من خلالها الدولة هؤلاء التقنيين ليصبحوا ضمن طاقم عملها. ولكن من الصعب تحقيق تقدم سريع في هذا الإطار في ظل الوضع الحالي للبلاد".

ماذا عن الكفاءات اللبنانية؟

وبالتالي، فلملء الفراغات المترتبة عن تلكؤ الدولة باتخاذ القرارات المناسبة وتوظيف من يلزم، يتم اللجوء إلى هذا البرنامج ودفع المال له لكي يقوم هو بالتوظيف. وفي هذا الإطار يتساءل الموظف: "ماذا عن الكفاءات اللبنانية؟ ألا يحق للإدارة اللبنانية أن تتمتع بها؟ فبدلا من دفع الأموال إلى وسيط لماذا لا يتمّ توظيفها مباشرة؟ فبهذه الطريقة، يشعر الموظف الرسمي الكفوء أن لا قيمة لكفاءته، خصوصاً وأن الأجر الذي يتقاضاه لا يصل إلى نصف قيمة الأجر الذي يتقاضاه موظف البرنامج الدولي، هذا إلى جانب تهميش دوره".

في سياق متصل، يعبّر أحد النواب اللبنانيين عن استيائه من قيام الحكومات المتتابعة بمساعدة الـUNDP فيما "الدولة بدو مين يساعدها"، وفي ذهن الناس أن هذه المنظمة هي التي تقوم بالمشاريع فيما تبقى سمعة الدولة في الحضيض، ولا أحد يذكر أنها هي الممول الأساس. ويوضح النائب أنه لم يقم بأي خطوة مؤخراً باتجاه إنهاء هذا الواقع "لأن العمل في الدولة متوقف"، ويشرح أن هناك 4 عناصر يجب أخذها بعين الإعتبار: أولاً، العنصر الإداري: فقد نشأت في وزاراتنا إدارة رديفة، وبات مستشارو الوزير التابعين لتلك المنظمة يحلون بدلاً من الموظفين. ثانياً، العنصر المالي: وهنا نجد تلفيقاً واضحاً بحيث أنه يظهر للعيان بأن المال يأتي من تلك المنظمة الدولية فيما الواقع مختلف تماماً، حيث أن الدولة هي التي تقوم بدفع الأموال. ثالثاً، عنصر الرقابة: فالموظف الرسمي يخضع لرقابة الدولة، فيما موظف تلك المنظمة لا يخضع لأي رقابة رسمية باستثناء رقابة الـUNDP. رابعاً، عنصر تمثيل لبنان في الخارج: فهؤلاء الموظفون يخوضون مفاوضات باسم لبنان في الخارج".

ويتابع النائب قائلاً لـ"النشرة": خلال كل تلك الفترة التي عملت فيها تلك المنظمة داخل إداراتنا، لم نجد أي تحسين، وجلّ ما قمنا به كدولة هو السماح لها بالإساءة إلى الكفاءات اللبنانية، متسائلاً: "من هي تلك الجهة التي تأخذ المليارات من الدولة ولا تساهم إلا بالقليل، وتأتي بجيش من الموظفين فتزرعهم في الوزارات؟".

تجدر الإشارة إلى أنه في العام 2010، أقدم عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله على إرسال سؤال إلى الحكومة حول الجدوى من وجود هذه المنظمة، ولا يذكر أنه قد حصل حتى اليوم على أي جواب في هذا الإطار بعد اتصالنا به. وقد أشار فضل الله في سؤاله آنذاك أن "ما يجري هو عملية تمويهية لتجاوز الأسقف المالية المحددة للرواتب".

الدولة تشعر بحاجتها إلى الـUNDP...

يردّ ريندا على هذه البنود، مشددا على أن "لا نية بأي شكل من الأشكال بأن يكون لدينا إدارة رديفة أو بديلة عن الإدارة اللبنانية، وهذا الأمر غير موجود في النتيجة المتوخاة لعملنا"، مشيراً إلى أن "التقنيين العاملين في الوزارات يندمجون ضمن الوزارة ويعملون تحت سلطة الوزير، وبالتالي فإن وجودهم فيها لا يشكل قطعاً مجموعة منفصلة عن الإدارة اللبنانية". ويتابع: "المسألة تكمن في أن موظفينا يملأون فراغاً في الإدارة اللبنانية، ولا يوجد وظيفة مزدوجة، وما من شخص يقوم بدور شخص آخر في الإدارة القائمة، وبالتالي، لا يجب أن تنشأ شكاوى من هذا النوع".

وفي ما يتعلق بالرواتب، يشرح ريندا ان "الدولة تعلم جيداً سلم الرواتب لدينا، وهي رواتب تنافسية محددة من قبل الأمم المتحدة استناداً إلى معايير تعدّل كل سنة". ويؤكد أنه "على الرغم من مناقشات عدة، فإن الدولة اللبنانية تشعر بأنه حتى الساعة لا إمكانية لإنخراط طاقم العمل هذا بشكل كامل في إدارتها الآن، وإلى حين تحقيق هذا الأمر، نرى أنه لمن قلة المسؤولية من قبلنا أن نترك هذا الدور الذي نقوم به اليوم والذي تطلبه منا الحكومة". ويوضح أن "كل برامج العمل السنوية ضمن الوزارات يتم اقرارها من قبل الوزير ومناقشتها في إجتماعات على الأقل مرتين في السنة، بحضور الوزير ومعاونيه إلى جانب المدير العام للوزارة، عندما تسمح ديناميكية الوزارة بذلك، ونحن نفضل أن يكون الجميع موجوداً".

ويعد ريندا بالعمل مع الحكومة الجديدة لكي تبدأ عملية استيعاب طاقم البرنامج ضمن الجسم الإداري بشكل تدريجي، "وفي نهاية هذه المرحلة تكون قد وصلت مشاريعنا مع الإدارة إلى خواتمها السعيدة".

وهنا لا بدّ من الاضاءة على أن في لبنان حوالي الـ50 مشروعاً للـUNDP، وسيصرف خلال العام الجاري هذا البرنامج حوالي الـ40 إلى 45 مليون دولار أميركي، وحوالي الـ75% من هذه الأموال تأتي كهبة من البلدان المانحة، كما يؤكد ريندا. وهذه المشاريع تصب خصوصاً في أربعة حقول هي: تطوير الحوكمة الديمقراطية، مكافحة الفقر والتنمية المحلية، حماية البيئة والترويج للطاقة المتجددة، والوقاية من النزاعات والمساعدة على النهوض. إلا أن المشاريع التي تعنى مباشرة بدعم الإدارة اللبنانية، فهي مشاريع ممولة بمعظمها من الدولة. وفي نهاية المطاف، بحسب ريندا، فإنه على السلطة اللبنانية أن تقرر ما إذا كانت تريد لهذه المشاريع أن تستمر أو لا.

وينفي أن تكون المنظمة تقوم بأي مفاوضات في الخارج باسم لبنان، مشدداً على أن كل ما نقوم به يتمتع بشفافية كبيرة.

الـUNDP: لا نحتاج إلى الدولة ماديا للإستمرار

"كل ما نريده هو خدمة لبنان"، جملة يكررها ريندا ويؤكدها، إلا أن أوساطا مختلفة، تعمل في مجالات متنوعة، تتحدث عن "رائحة" فساد تفوح من بعض المشاريع التي يقوم بها البرنامج، وهنا يشدد ريندا على ضرورة أن تصل إليه هذه الشكاوى، ويقول: "أدعو من لديه أي شك أو معلومة أو تساؤل إلى التحدث إليّ. فلا يمكنني أن أجاوب على اتهامات تشبه الضجيج، فمن لديه أي شكوى محددة تجاه أي شخص في المنظمة، فليقدمها إليّ لكي اتحقق منها واتخذ الإجراءات اللازمة". ويتابع: "إذا وجدت بعض الإعتراضات داخل المؤسسات اللبنانية، فمن الجيد أن أعلم بها لكي أتمكن من القيام بأي شيء. فنحن مستعدون للتحاور... ولكنني أجزم أننا لا نعتمد على أموال الدولة اللبنانية للإستمرار بمشاريعنا. فنحن نحتاج إلى التعاون مع الدولة لأننا ملزمون على تحقيق هذا التعاون بحكم قانوننا، ولكن العلاقة التي تجمعنا لا تتعلق بحاجتنا المادية إليها للإستمرار".

الموظف في الدولة اللبنانية يرى أن لا حاجة للبنان إلى وساطة أي طرف، خصوصاً في ظل وجود الكفاءات العالية داخل الوزارات وداخل الجامعات والجمعيات التي يمكن للدولة التعاون معها للقيام بمشاريع عدّة وبدراسات عالية المستوى وبأقل كلفة، فيما الدولة التي ترى اهتراء نظامها الإداري، تلجأ إلى "حلّ" باهظ، لا مخرج منه حتى الساعة.