أيضاً وأيضاً من لبنان وعن لبنان نكتب، لأن الحدث اللبناني لم يعد ذلك الحدث المحلي الضيق بمقدار ما أصبح متأثراً بالتطورات الإقليمية وحتى العالمية وموثراً فيها.

ما المقصود بفخامة الثالث عشر؟

إنه الرئيس الآتي الذي يجب أن ينتخب في لبنان قبل الخامس والعشرين من أيار (مايو) المقبل. وسيحمل الترتيب الثالث عشر في سياق انتخابات رئاسة الجمهورية منذ الاستقلال.

كثيرون يتشاءمون من الرقم 13، ولدى البعض أسبابه لذلك فيتجنبون استخدامه أو القيام بأي نشاط فيه، ولأن لبنان ولشدة الأيام السود التي مرت عليه يحق لبعض اللبنانيين عدم استخدامه، واستطراداً الإحساس بمشاعر سوداوية.

في ما يتعلق بترتيب الرئيس الجديد والمجهول حتى كتابة هذه السطور، المهم أن تتفاهم القوى الفاعلة قبل انتهاء المهلة الدستورية حتى لا يقع لبنان في الفراغ، كما حدث نهاية عهد الرئيس إميل لحود، حيث بقي لبنان من دون رئيس حتى جاءت «صيغة الدوحة» وأنقذت الحل، وتم التوافق على انتخاب الرئيس ميشال سليمان.

لقد شهد الوطن في الأيام الأخيرة موجة عارمة من الإضرابات والتظاهرات ذات الطبيعة المطلبية والتي يتميز بعضها عن التظاهرات العادية أو المألوفة. وضاقت السبل باللبنانيين للتعبير عن ظلاماتهم ومطالبهم الحياتية فتوجهوا شطر البحر ونزل فريق الدفاع المدني الأول والمؤلف من عشرين شخصاً على شاطئ الرملة البيضاء وقرروا الإبحار مسافات بعيدة، وتعاهدوا على أنهم لن يخرجوا من البحر قبل الحصول على مطلب تثبيتهم في مناصبهم، باعتبار أنهم يقومون بعمل تطوعي، ولكن أدركت غالبية أعضاء المجلس النيابي أن من حق هؤلاء الذين يعرضون حياتهم للخطر الحصول على حد أدنى من البدل والتعويض. هكذا، وافق البرلمان على تثبيت عناصر «الدفاع المدني» بعد إجراء مباراة لهم.

وفي اليوم نفسه كانت بيروت تضج بعدد آخر من متظاهرين ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة. فالتقى في ساحة رياض الصلح أفراد هيئة التنسيق النقابية الخاصة بإضراب المعلمين الذين يعانون منذ ما يزيد على ثلاث سنوات المماطلة والتسويف في تنفيذ مطالبهم، أو «سلسلة الرتب والرواتب». عقدت مفاوضات شاقة وكثيرة لمعرفة كيفية تمويل هذه السلسلة في بلد تتآكله الديون والعجز. وقد وُعدوا كثيراً في الماضي لكن ما من شيء تحقق. والآن تلقوا وعداً من رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن الموافقة ستتم في مهلة أقصاها يوم الأحد المقبل (غداً). وعليه تفرق المتظاهرون على أن يتحركوا في ضوء التطورات.

إن لبنان يعاني مجموعة تراكمات من التقصير بحق الكثير من المواطنين وعدم إنصافهم، والسبب: مالية الدولة الخالية من المال حيث العجز المالي العام يتجاوز الـ70 مليار دولار، وليس هناك سوى التعجيل في البدء بعمليات التنقيب عن النفط في المناطق التي حددتها بعض الشركات المختصة.

ماذا عن الجوانب الأخرى التي يغرق فيها الوطن؟

في طرابلس، عاصمة الشمال، طبقت خطة أمنية بعد انقضاء عشرين جولة من القتال بين «جبهتي» باب التبانة (السنّية) وجبل محسن (العلوية). وقد توارى من يطلق عليهم «أمراء المحاور» خشية اعتقالهم من الجيش الذي فرض سيطرة كاملة على محاور القتال، ولأول مرة منذ سنوات تنعم طرابلس ببعض الهدوء، مع مخاوف من عودة الاقتتال كما في السابق. وتؤكد الأحداث أنها كانت من نوع «غب الطلب»، فإذا صدرت التعليمات بالتعجيز كانت الاشتباكات تقع فوراً، وعندما تم التفاهم على دعم الخطة الأمنية، ورفع الغطاء السياسي عن المتناحرين، تمكن الجيش من فرض الأمن.

أما الهاجس الأكبر الذي يقض مضاجع لبنان واللبنانيين فهو ارتفاع عدد النازحين الهاربين من سورية وجحيم معاركها. وعندما تتكلم الأرقام يبرز هول الكارثة: ووفق الهيئة العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة:

- لاجئ سوري يدخل لبنان في الدقيقة الواحدة.

- «بين كل ألف لبناني هناك 220 سورياً»، أي ما يوازي ربع سكان البلد، وبذلك يستضيف لبنان أكبر تجمع للاجئين في تاريخه.

- وأكثر: «إن تدفق أكثر من مليون لاجئ على أي بلد يشكل أزمة ضخمة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق ببلد صغير كلبنان».

- أيضاً وأيضاً: «في نيسان (أبريل) 2012، كان هناك 18 ألف لاجئ سوري في لبنان، وبحلول نيسان 2013 كان هناك 356 ألفاً، واليوم تجاوز المليون، وفي كل يوم تسجل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 2500 لاجئ جديد، وهذا يعني دخول أكثر من شخص في الدقيقة الواحدة».

ويورد التقرير الدولي: «أن البلاد شهدت صدمات اقتصادية خطيرة بسبب الصراع في سورية، بما في ذلك تراجع في التجارة والسياحة والاستثمار وزيادة في النفقات العامة. أما الخدمات العامة فتكافح من أجل تلبية الطلب المتزايد في مجالات الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والصرف الصحي».

ويتضح ما يأتي:

- «تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الأزمة السورية كلفت لبنان ملياريين ونصف المليار دولار كتراجع ضرب النشاط الاقتصادي خلال 2013، ما يهدد 170 ألف لبناني ويدفعهم إلى مستوى الفقر في نهاية السنة الحالية مع اتجاه إلى انخفاض الرواتب وعدم قدرة العائلات على تغطية نفقاتها بحيث إن أكثر من 400 ألف تلميذ لا تتسع لهم المدارس الرسمية اللبنانية».

وينتهي التقرير إلى «أن أكثر من 80 ألف لاجئ في حاجة ماسة حالياً إلى المساعدات الصحية، وأكثر من 650 ألفاً إلى تلقي مساعدات غذائية شهرية للبقاء على قيد الحياة».

وحول مواقف الدول العربية والكبرى يرى التقرير أن «دعم المجتمع الدولي للبنان ليس فقط واجباً أخلاقياً، إنما هو أيضاً حاجة ماسة لمنع الانزلاق نحو ما يهدد لبنان الضعيف في أمنه واستقراره».

- هذه الأرقام والمعلومات ستحمّل اللبنانيين من دون استثناء، الأعباء الإضافية التي لا قدرة لهم على تحملها اقتصادياً واجتماعياً وحياتياً وأمنياً. يضاف إلى ذلك أن المؤسسات الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة تقدر وصول عدد النازحين نهاية 2015، إلى أربعة ملايين مواطن سوري، أي ما يوازي عدد أعضاء السكان الأصليين وربما يزيد، فكيف سيتدبر لبنان واللبنانيون الأمر؟

وهناك معلومات أخرى مثيرة لكثير من القلق تتحدث عن «توطين السوريين في لبنان». وقد شهد مجلس الوزراء اللبناني في جلستة الأخيرة الكثير من النقاش حول هذه النقطة وتوزعت الاقتراحات على الآتي: في ضوء الإحصاءات التي قدمها وزير العمل سجعان قزي لمجلس الوزراء، طرحت اقتراحات عدة منها إقامة مخيمات في الداخل السوري وعودة النازحين إليه. لكن، لم يعرف حتى الآن مدى تجاوب النازحين مع الاقتراح، لأن الأمر يتوقف على طبيعة الفريق السياسي الذي ينتمون إليه. كذلك جرى التداول في أفكار تدعو إلى عودة النازحين إلى مناطق الداخل السوري التي لا تشهد اشتباكات وعمليات عسكرية كبرى.

ويرى البعض أن اقتراح إبعاد النازحين، فضلاً عن أنه ليس عملياً، لن يلتزم به كثيرون من المقيمين، ثم هناك تأويلات تتعلق بتقسيم سورية! بمعنى أن فرز المواطنين في المناطق وفق اتجاهاتهم يعيد الفريق الذي يدين بالولاء للنظام، إلى مناطق آمنة يسيطر عليها النظام، وينتقل الفريق الآخر إلى مناطق أخرى سيطرت عليها المعارضة ولا تشهد اشتباكات.

ووجد البعض أن الاقتراح الأخير يحمل في طياته ملامح «التقسيم». فـ «تعريب السوريين» بين موالين ومعارضين سيباعد أطراف الشعب الواحد. واستكمال خطة الفرز الطائفي والمذهبي وحتى العرقي سيؤدي حكماً إلى تقسيم سورية.

والحديث عن التوطين ليس كلاماً في الهواء، بل لنصغِ إلى ما يقوله سفير بريطانيا في لبنان توم فليتشر. فهذا السفير النشيط يقول: «إن خطر التوطين ليس وهماً! والإنكليز يعرفون خفايا المنطقة وتاريخها القديم والحديث أكثر من الآخرين. وحتى الآن هناك صمت رهيب كأنه صمت أهل الكهف حول موضوع الاستيطان، وعلينا انتظار ما ستؤول إليه المعارك إذا ما فشلت الحلول السياسية، وهذا هو الواضح حتى الآن».

لكن، على رغم كل هذا يجري التحضير لما يسمى «جنيف - 3» للأزمة السورية. وعندما يأتي الحديث عن تأليف لجنة انتقالية للبحث في مصير النازحين، ترتفع الأصوات المطالبة بالبقاء في لبنان وفي المخيمات بوصفه أفضل من العودة إلى «جحيم المعارك». ويبقى على لبنان أن يتخذ الإجراءات التي تدافع عن أهله أولاً. ثم يقدم العون لجيرانه السوريين، لكن ليس على حساب أهل الوطن.

وبعد...

ألا تكفي فلسطين واحدة؟!

عندما هاجر فلسطينيو مناطق الـ48 إلى لبنان، كان اعتقادهم السائد أنها فترة قصيرة وستنتهي. واليوم وبعد مرور ما يقرب من الـ65 سنة، ألا يتضح أن الفلسطينيين باقون وصامدون في مواقعهم بعد ما تأقلم معظمهم مع طبيعة الحياة في لبنان، ولو في مخيم. فهل سيحدث للنازحين السوريين كما حدث للاجئين الفلسطينين؟ ويشهد العالم العربي ولادة أكثر من فلسطين؟

إن الوضع القائم مفتوح على كل الاحتمالات. لذلك، على أهل الرأي أن ينجزوا استحقاق انتخاب الرئيس الجديد ضمن المهلة المحددة، علماً أن تاريخ الانتخابات السابقة تؤكد لنا مدى تدخل الخارج، القريب منه والبعيد بالداخل اللبناني، وهذه واحدة، من مآسي الوطن. فهل يتحرر أهل الوطن لمرة ويترك لهم أمر انتخاب رئيس جديد؟

هذا هو الاستقلال الحقيقي إذا ما حدث، وإلا سنبقى في دائرة الاستقلال المموه وغير الناجز.

لقد أردنا عبر عنوان المقال «فخامة الثالث عشر الآتي» أن يكون اختزالاً لدقة الوضع وحراجته، وتحت العنوان نفسه يندرج الكثير من الشؤون والشجون. وإذا كانت التطورات الأمنية هي الطاغية، فإن الوضع الاجتماعي العام دخل مرحلة متقدمة من الورم والتدرن. ولم يعد جائزاً تجاهله. لذلك، نقول ونردد: حذار الانفجار الاجتماعي مع الأنواع الأخرى من الأخطار والضغوط. وإلى المعنيين بمعركة رئاسة الجمهورية: حافظوا على الجمهورية كي يتم صراعكم على رئاستها!