اعتاد اللبنانيون على قراءة إسم بلدهم في نهاية اللوائح التي تصنّف الدول وفقاً لمدى تطورها في مسائل متنوعة، فبات البعض يسخر من هذه التصنيفات، ويعتبرها "تحصيلاً حاصلاً"، دون أن تُنتج لديه أي إحساس... فيقرر حينها أن يعود إلى سماع أغاني الرحابنة التي تتغنى بلبنان الحضارة، وإلى قراءة أساطير تتعلق بتاريخ هذا الشعب الجبّار من أيام الفينيقيين، فيتواسى بعض الشيء، ليعود إلى اهتماماته اليومية.

إلاّ أن التصنيف الذي نحن أمامه اليوم يستحق التوقف عنده، كونه لا يتعلق بوجه أو بآخر من التحضّر والتطوّر فقط، بل يدخل في صلب يوميات المواطنين الطويلة أمام أبواب السفارات، وفي أروقة المطارات، ولدى مراكز حجز التذاكر. فالأمر هذه المرة، يتعلق ب​جواز السفر​ اللبناني.

ليست المرّة الأولى التي تحتل فيها تلك الأرزة الذهبية المطبوعة على ذلك الدفتر الكحلي آخر التصنيفات، رغم كل التطورات التي أدخلت عليها. إلا أن المسألة لا تكمن هنا، بل تكمن في حرية استخدام جواز السفر هذا للتنقل دون شروط مسبقة في هذا العالم المُعولم.

فقد وضع مؤشر "هانلي بارتنرز" العالمي لبنان في المرتبة الـ88 من أصل 93 مرتبة، وفي الخانة عينها مع كل من: كوسوفو، السودان، وسريلانكا. ويليه النيبال في المرتبة 89، إيريتريا والأراضي الفسطينية في المرتبة 90، باسكتان والصومال في الـ91، العراق في المرتبة 92 وأفغانستان في نهاية التصنيف في المرتبة 93.

يعود هذا المؤشر إلى سنة 2013، ويستند إلى معيار واحد وهو "مدى الحرية التي يتمتع بها حاملو جواز سفر بلد معيّن للسفر إلى بلدان أخرى"، وفق ما تؤكد المسؤولة عن نشر الدراسة أماندا فيليب لـ"النشرة". وبالتالي، فإن تصنيف البلدان يختلف وفق عدد الدول التي يمكن لمواطنيها السفر إليها بحرية ودون شروط مسبقة، وهو معيار حسابي بسيط لا يستند إلى خلفيات سياسية أو أمنية، فحاملو الباسبور الفنلندي يمكنهم زيارة 173 بلداً دون الحصول على تأشيرة مسبقة للدخول، لذلك نالت فنلندا المرتبة الأولى، فيما يمكن لمواطني نيكاراغوا الدخول إلى 109 بلدان دون "فيزا" مسبقة، وهذا يضعها في المرتبة 36، أما تانزانيا التي تحتل المرتبة 63 إذ يمكن لمواطنيها السفر بحرية إلى 65 بلداً... إلخ.

وتجدر الإشارة إلى أن شركة "هينلي أند بارتنرز" هي شركة عالمية تعمل على تقديم الإستشارات في ما يتعلق بالمواطنة والإقامات.

وتعليقاً على هذا التصنيف، التقت "النشرة" بعدد من المواطنين الذين عبّروا، كل على طريقته، عن أسفهم لهذا الوضع الذي وصلنا إليه، "بعد أن كان الباسبور اللبناني أمنية الكثيرين في ستينات القرن الماضي". فالمواطن طوني طربيه، الذي يتمنى أن يعيد المسؤولون إلى جواز السفر اللبناني رهجته واحترامه، يؤكد أنه لا يسافر بجواز سفره اللبناني بل الأميركي بعد أن حصل عليه منذ بضع سنوات، وهو حتى لا يذكر أين رآه آخر مرّة. ويكشف أنه، في الـ2004، عندما كان يحمل باسبوراً لبنانياً، خضع إلى تفتيش دقيق في مطار بيروت الدولي، بينما عندما عاد إلى لبنان عام 2007 مع جواز سفر أميركي، ألقى إليه الجميع التحية. ويقول: "نحن نعلم أن اللبناني دائماً يخضع لتدقيق أكبر وينتبه منه الجميع... للأسف، هذا ما وصلنا إليه".

ويلقي غيث طحطح اللوم على "الإرهاب الذي وصل إلى لبنان والتطرف الإسلامي السلبي الذي يجب إلغاؤه ليبقى لدينا إسلام جميل وحقيقي"، معتبراً أن "تحسين مكانة اللبناني في العالم بات صعب جداً". أما ترايسي رامح فتعتبر أن الدولة هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن هذا الموضوع الذي ترى فيه "أمراً متوقعاً وليس بجديد".

إلا أن سامر يرى أن جواز السفر اللبناني، رغم كل ما يُقال، هو الأفضل في العالم، متمنياً على الدولة اللبنانية أن تعامل البلدان التي تطلب منا كلبنانيين شروطاً كثيرة لدخول أراضيها بالمثل. ويقول: "من لا يريدنا أن نزور بلده لا نريده أن يزور بلدنا أيضاً".

وفي هذا الإطار، تفيد مصادر مطلعة عن وجود تقصير لناحية الجهود الدبلوماسية المبذولة لتخفيف الشروط المفروضة على اللبنانيين للسفر إلى بلدان عدّة. وتوضح أن السبب الحقيقي يكمن خصوصاً هنا، إذ إن هنالك بلدانا تعاني من مشاكل إقتصادية كبيرة أو حتى من مشاكل لناحية الإتجار بالمخدرات وصعوبة ضبط حدودها ومن أزمات سياسية، وهي موضوعة في مراتب متقدمة لناحية حرية السفر.

فحاملو جواز السفر اللبناني يمكنهم أن يسافروا دون شروط مسبقة (أي دون تأشيرة دخول، او "فيزا" في المطار) إلى 38 بلد فقط، وهو ما يجعلهم يحتلون تلك المرتبة المتأخرة. وتلك البلدان هي:

في الشرق الأوسط ودول الخليج وآسيا، يمكنهم السفر إلى سوريا والأردن وتركيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وإيران وسلطنة عمان. في إفريقيا، تستقبلهم أوغندا، طوغو، موزمبيك، دجيبوتي، كابفير، مدغشقر، جزر موريس، جزر القمر، وجزر سيشيل. في الشرق الأقصى، بنغلادش، النيبال، لاوس، كامبوديا، ماليزيا، جزر المالديف، التيمور الشرقية وماكاو. في أميركا اللاتينية: بوليفيا، الإكوادور، نيكاراغوا، هايتي، وجزر الدومينيكان، و"سانت كيتس ونافيس". وفي أوقيانيا، تستقبلهم جرز الكوك، وميكرونيزيا، ونيوي، والبالاو، وساموا وتوفالو. أما في أوروبا، ففقط كوسوفو تفتح أبوابها لهم دون فيزا. ونشير إلى أنه قد قام حوالي الـ1200 شخصاً في الـ2012 بتوقيع عريضة تطالب بمبدأ المعاملة بالمثل، وبالسماح إلى اللبنانيين بالدخول إلى أوروبا دون شروط الـ"فيزا شنغن"، إلا أنها لم تلق الصدى المطلوب.

وفي هذا الإطار، تستبعد المصادر أن تصبح خطوات كهذه أولوية بالنسبة إلى المسؤولين، كون معظمهم يحملون جوازات سفر أجنبية، أو على الأقل، جوازات سفر مميّزة، وهذا يفسّر بالنسبة إليها، إقدام اللبنانيين أيضاً على القيام "بأي شيء" للحصول على جنسية أخرى، رغم تمسكهم وتعلقهم الكبير بلبنان.

فداني، الذي التقينا به، يخبر "النشرة" كيف تزوّج من ناروجية لسبب واحد: الحصول على الجنسية. أما إيلين، فتخبر عن شقيقتها التي تكبدت عناء السفر، وهي حامل، ثلاث مرات: مرّة إلى المكسيك، ومرة أخرى إلى الولايات المتحدة، ومرّة ثالثة إلى كندا، لإنجاب بناتها الثلاث لأنها تعتبر أنها بذلك "تؤمن لهنّ مستقبلهنّ"، كون الولادة في تلك البلدان كافية للحصول على الجنسية.

أما سائر اللبنانيين، أولئك العاديين الذين يتمسكون بتلك الأرزة الذهبية، وبذلك الدفتر الكحلي، فيبقى عليهم أن ينتظروا اليوم الذي سيخرج فيه لبنان من ذلك التصنيف... وإلى حينه، يجدر بهم أن يخططوا لسفراتهم قبل أشهر طويلة، وأن يؤمنوا سلسلة الشروط التي تدخل أحياناً في حياة المرء الشخصية (كإخراج القيد العائلي أو صكوك الملكية... إلخ)، وأن ينتظروا طويلاً... علّهم يحصلون على ما يصبون إليه: تأشيرة الدخول... لأيام معدودة. فوزارة الخارجية التي كانت غائبة منذ عقود عن التعاطي مع هذا الأمر، يبدو أنّها مرشّحة للبقاء على ما هي عليه، ولعلّ صرخة من هذا العيار تجعلها تستفيق.

تصوير تلفزيوني علاء كنعان